كنت إذا أجلس على طاولة مقهى في العاشرة من صباح يوم من نهاية الأسبوع، يأتي رجل مسن، يرتب الصينية على الطاولة لتتسع لكوبه هو وزوجته، ويجلس أو يدعوني لطاولته، ثم يعطيني رقم موبايله دون أن أطلب، ويرسل رسالة في صبيحة كل سبت: “سنكون في شرفة المقهى بعد ساعة، لا تتأخري”.
كانت -رحمها الله- من ألطف الناس وأقوى الناس، ومن أحسن من قد يمرّ عليك خُلُقاً. وأظن أن قدراً كبيراً مما تتحلى به من حسن خلق راجعٌ إلى قَدْر ذاتها عندها.
نورة تريدني أن أستعيض عن طاولات المقاهي بلايف إنستقرام.
أنا التي أحدّث صديقاتي فرادى، وأختار الطاولة ذات المقعدين، وأُقبِل على من يحدثني بجذعي كله، كأن في قلبي بوصلة تريد أن تضبط اتجاهها.
اتصلت بي أمها المسنة:
“ألو، يا حصة، تعالي شوفي أسما”.
قالت أنها منهارة، ووصفت لي من حالها ما لا أريد أن أراه.
أغلقتُ الهاتف، ومشيتُ في الصالة الصغيرة في خط مستقيم، ذهاباً وإيابا، ثم سحبت من خزانة ثيابي أسبلَها وأيسرها ارتداءً، وخرجت.
“You don’t love because, you love despite; not for the virtues, but despite the faults”.
مرّ بي هذا الاقتباس أول مرة في 2012 -أظن- وظلّ عالقاً في مكان ما في ذاكرتي.
صديقاتي يقلن أني أتصف بالوفاء، وأنا -على وجه الدقة- لا أعرف ما الذي يعنيه هذا. لم يكن يجمعنا مجلس خشن فذكرتهن بَعده لأستحق هذا الوصف، ولم يقُطع بإحدانا طريقٌ ووصلناها، لم يحدث شيء من هذا، لذا، أشعر أني أتوه في معنى الوفاء، ويفلت مني المُحال إليه (المدلول) عندما يصفنني به.
تُورِثك القدرة على التخلي وحدها خللاً في أصل إنسانيتك. هذا إن كنت تملك من قدرة التخلي أكثر من قدرتك على الوصل.
وفي الحديث عن هذا تفصيل يطول.
أنت قد تُوهب التخلّي سليقةً، وموهبةً فُطِرْت عليها، ورزقاً من أرزاقك، ثم تُوهب من الرحمة في قلبك بِقَدْر ما وُهِبت من فطرة على التخلي، فتصير بين صرامة التخلي…