عن الزرع، يُشبهنا
أضع على نوافذي زرعاً، وأعتني بباقات الورد التي أهداها، كلما طرَق الورد بابي أو وصلتني نبتة في أصيص كنت أحاول أن أمدّ من عمرها برعايتها: نقصُّ ثلث الساق من الأسفل، ننزع عن الساق أوراقها في الجزء المغروس في الماء، نُطعم الزهور غذاءً يذوب في الماء (محلول مغذٍّ، موجود مع الباقة أحياناً، أو حبة باندول مسحوقة)، ثم نغيّر الماء كل ثلاث. غير أن الورد لا يبقى سوى أسبوعين -على أكثر تقدير، وليس هذا حال النبت إذا أتى في وعائه، مع طينته.
أحب الخضرة المغروسة في التربة حيث كانت، وتعجبني في بيت العائلة، تهب البيت سكوناً على سكون أهله، وحياةً مع الحياة التي فيه. الزرع الذي يُسقى من ماء واحد، ثم يكون لكل نبتة منه طبعه وثمره يعلمك معانٍ كثيرة؛ في الرزق من السماء، وفي الأناة، وفي غيرها.
ولا أعرف من رعاية النبت سوى ما أجده في بطاقات إرشادات العناية التي تأتي مرفقة بالباقة أحياناً، ولم أرعَ نَبْتاً إلا في سني الغربة، وفي أعوام الدراسة، غير أني كنت أرعاه حين يأتيني، وأحاول أن أمدّ في عمره.
في أوقات ضعفي وكربتي كان الزرع يموت مهما سقيته، وفي أزمنة محاولاتي كانت سيقانه تميل ثم يستقيم. كنت أحاول أن أستصلح الأشياء، غير أن النبتة تُستصلَح من عطش حديث عهد، لكن قلَّ أن تُستصلح من جفاف.
كانت نبتةٌ تموت إلا غصن فأستبقيها رجاء أن ينمو، وإذا الموت أسبق إلى الغصن من الحياة إذا بلغ الجفافُ الجذور. وتموت زهرة على رأس الغصن الأخضر -في غير موسم إزهارها -، فأنزع الزهرة وأُبقِي الغصن الأخضر، رجاءَ أن يُنبِت الغصن زهرة أخرى، حتى قال لي بائع الورد -عاودتُه أسأله-: الزهرة الميتة تُنزع من عِرقها لا من حيث تُزهر.
تكاثرت آنية الزرع على نوافذي، وكان لكل نبتة طبعٌ، وكانت أيسر النباتات رعايةً نبتة تُعرف في نجد وفي فلسطين (وفي مناطق أخرى أنواعٌ منها) تَنبت بين الصخور، وفي الظلّ، تسرقه. وجدتُها مفروشة على رصيف بائع ورد وأنا أعبر الطريق -في تشرين-، واشتريتها قبل أن أعرف عن طبعها أو مَنشأها.
كانت إذا تعرضّت للشمس أكثر مما يكفي تذوي فتتقوّس أغصانها، ثم إذا آويتها في الظل لا تلبثُ أن تستقيم. قال الراعي إنها نبتة شتوية، لن تعيش في الصيف، غير أنها ظلّت مُزهرة. لم يكن يُذويها فرطُ السقيا، ولا يميتُها التعرض للشمس – كأنما تأخذ من فاضل الماء ما تستعين به على الشمس، يتفاوت إزهارها بحسب الموسم، غير أنها مورقة دائماً، يؤكل في فلسطين ورقها، ويُستخدم زهرها عطراً يشعَل في الأديرة، أو صابوناً يُغتسل به، وتعرفه نجدٌ ظلّا في صحرائها.
وبينما دار حَول على نبت نجد، كانت بجواره ، على نافذتي، نبتة (يوسفيّ صغير جداً)، اشتريتها في موسم إثنارها، سقيتها سقياً منتظماً وعرّضتها لما تحتاج من أشعة الشمس، غير أن ثمرتها لم تكبر ولم تتكاثر، وتسقط صغيرةً بعد حين مهما سقيتها، فظننت أنها “نبتُ زينة“، حتى أَودعتها صديقة من الشام -قُبيل عودتي إلى البلاد-، فأزهرت النبتة الحمضية عندها، وتكاثرت ثمراتها، إذ هي من أرضها.
الطين يشبه الطين.
رفّ:
هنا تتحدث عزّة عن (التربة) تكنّي بها عن الاستعداد والتهيئة. (عزّة أم لستة أبناء، مصرية مغربية، ولدت وعاشت عمرها في السويد، ثم هاجرت بعائلتها إلى المغرب – تحكي في قناتها تجاربها).
هامشٌ في طبائعنا أيضاً!