Skip to content Skip to sidebar Skip to footer

معالِجة نفسية تبحث عن معالِجٍ نفسيّ!

[١]

كتبت لوري غوتليب كتابها: Maybe You Should Talk to Someone: A Therapist, HER Therapist, and Our Lives Revealed. والكتاب -كما يبين عنوانه الفرعي: عن معالجة نفسية، اتخذت لها معالجاً نفسياً، وعن الحياة كما تتكشف -في هذه الرحلة-.

ولوري كاتبة ومعالجة نفسية أمريكية، تكتب في مجلة أتلانتك، عمود Dear Therapist تجيب فيه على رسائل القراء عن مشكلاتهم، ولها بودكاست بنفس الاسم. تحضر لوري كثيراً في وسائل الإعلام، ولها مقطع في تيد، تقول فيه أننا لأننا نروي قصصنا بطرقنا الخاصة، فلسنا رواة ثقاة لهذه القصص، تحيل إلى تحيزاتنا، ومواقفنا الشخصية مما يحدث لنا.

وعلى هذا، فلوري قاصّة، تروي أفكارها بسرد تجاربها الشخصية، وهذا مما جعل الكتاب -الذي تحوّل فيما بعد إلى مسلسل تلفزيوني– يلاقي رواجاً هو جدير به، لأجل خفة السرد ولطف المعالجة، والكتاب رواية أو مذكرات قصصية أقرب منه كتاباً في الإرشاد النفسي.

لا أذكر أين قرأت توصية للكتاب، لكني أذكر أن التوصية أثنت على الكتاب جداً، مما جعلني أضعه في قائمتي. لاحقاً، نظرت في النسخة العربية، التي لم يَبدُ لي -من الغلاف- أنها مناسبة أبداً، فقد تُرجم العنوان إلى: (ربما عليك أن تكلم أحداً: معالج نفسي وحياتنا كما يكشفها)، وأغفل إغفالاً مُخِلّاً -بالقصة والفكرة- وجود المعالج النفسي للمعالِجة.

استمعت إلى النسخة الأصلية للكتاب، وكان سرد الراوية المحترفة، للنسخة الصوتية جميلاً متقناً، ينقل القصة على نحو يُذكّرك بالمسلسلات الصوتية في الراديو قديماً، فيضيف إلى خفّة السماع متعة وانجذاباً للقصة، يُشغلك عن كثير من الأعمال التي تستثقلها، فلا يَثْقُل عليك شيء من مهماتك اليومية، إذا تنجزها وأنت تسمع.

تروي لوري الحوارات وتناقش المشكلات التي تعرض لها في جلسات العلاج النفسي، ثم تقول كيف شعرت هي أنها بحاجة إلى الاستعانة بمعالج نفسي، يرشدها فيما تواجهه في الحياة، وكيف بحثت عن مختص يرشدها -من نفس المهنة التي تشتغل بها-، وحكت -بأسلوبها القصصي- بعض مفاهيم العلاج النفسي، من أريكة المراجِع، هذه المرّة، لا من طاولة المعالِج.

وأذكر أنها ختمت الكتاب بفصل تحدثت عن مسارات (أو أساليب) حديثة في العلاج النفسي، منها ما يمكن وصفه بالعلاج السريع، وهو منحى يتعامل مع العلاج النفسي كمنتج يلبي حاجة الزبائن، أكثر منه “رحلة لا يمكن استعجالها” ولا مناص من الصبر على تأنيّها، على نحو تتحول فيه الرحلة المرتبطة بالنفس وطبائعها وتداخلات العلاقات فيها- إلى مُنتَج تُصمَّم فيه “باقات” العلاج حسب النتيجة المطلوبة منها، والمدة المقيّدة بها (مثلاً: 12 جلسة لتعرف إذا كان هذا الشريك مناسباُ، 6 جلسات لاتخاذ قرار بشأن كذا، وهكذا)، تباع هذه المنتجات، ولها سوق كثيراً ما ينشط قبيل مواسم الأعياد .. وتقول أن هذا ينتهك كل ما تعرفه معالِجة ومعالَجة عن ممارسات العلاج النفسي وأدبياته وأخلاقياته.

(عليّ أن أُذكّر أني أكتب هذه التدوينة معتمدة على ذاكرتي، وأسجّل فيها ما بقي مما لفت نظري من الكتاب، من غير نقل مباشر دقيق).


[٢]

كانت تجربة سماع الكتاب الذي رافقني أياماً -لم تخل من انقطاع- ممتعة، آتتني خفة في إنجاز بعض المهمات اليومية الروتينية. فبحثت في صفحة الراوية عن كتب أخرى، كان منها كتاب آخر للمؤلفة نفسها، ترويه الراوية ذاتها، عنوانه: Marry Him: The Case for Settling for Mr. Good Enough ، (غير أني لم أجد في نفسي اهتماماً بسماعه، وتركته شهوراً، حتى طرأت مهمات تحتاج كتاباً يُشغلني، ففتحت الكتاب المسموع مدفوعة بحسن إلقاء الراوية، وبمهمات روتينية أستثقلها لولا سماع يشغلني).

والكتاب -كما يشير عنوانه الفرعي- يقدّم مرافعة تحثّ فيها الكاتبة البنات على القبول بزوج يبلغ -في مواصفاته- حدّ الكفاية، ضد حالة الاستحقاق** والانتقائية التي صارت موقفاً نفسياً مؤصلاً، عند جيل كامل من البنات، أو تكاد**.


[٣]

اتخذت الكاتبة من رواية قصتها الشخصية، وتجارب كثيرة عايشتها أو رويت لها مادة لتوضح موقفها، استعانت بدراسات وإحصائيات لتعزز رأيها، وقالت في مقدمة الكتاب أن هذا الكتاب ليس (قصة حبها)، تستبطن: أن قصتها التي ترويها لم تُختم بالزواج، ما يجعل هذه القصة هي قصة “البحث” لا قصة “الوصول”، في صياغة أشبه بإنذار تحذيري، أو دقات بَنْدول تعمل عَمَل سياط الركض!

في تجارب البحث عن زوج، تَعرض لوري أدوات “البحث” التي استعانت بها، منها: (تطبيقات المواعدة)، و(جلسات المواعدة السريعة) وهي اجتماعات تنظمها مواقع/شركات، حيث يجلس على طاولة طويلة عدد من الرجال يقابلهم عدد من النساء، تنطبق فيهم مواصفات محددة (مثل: العمر والحالة الاجتماعية، وغيرها)، يتحاور كل اثنين متقابلين خمس دقائق، ثم ينتقل كل واحد إلى الكرسي على يمينه ليقابل آخراً ويحدّثه مدةً مماثلة، في نهاية الجلسة يسجّل من يرغب بياناته ليُتَواصل به إن أحدٌ من الذين قابلهم أبدى اهتماماً بمقابلته ثانيةً! في لقاءات مصممة لعالم سريع يركض، يلقي سياط العجلة، على حاجات الإنسان، “يستثمرها” لمزيد من الكسب بمعايير سوق مبتذلة.

وتحت “ضغط الزمن” تنتبه لوري أن “الوقت يدهمها”، إذ بلغت الثامنة الثلاثين، أو أوشكت، فتقرر -بعد فحص للمتاحات- أن تنجب طفلاً بنطفة تأخذها من بنك نطف، تزور البنك، وتقرأ في الدفاتر بيانات عن أصحاب النطف الذي تبرّعوا بها، وتختار نطفة تُغرس في رحمها، لتلد بعد تسعة أشهر طفلاً تربيه وحدها، وتقول هي أن الأمومة عطّلتها عن رحلة البحث عن زوج عامين، إذ انشغلت برعاية الطفل حتى بلغ الفطام/الحضانة، وهو ما لم تكن منتبه له عندما خططت للحمل.

أذكر أن الكتاب كان له أثر مزعج صادم عليّ، حتى أني كنت أترك ما بين يدي من الشغل أحياناً، أو أنصرف عنه لحظات، لأحملق في الشاشة (التي لا تعرض شيئاً) حتى أستوعب صدمتي من الكلام المسموع، وقد جعلني حجم الابتذال في نوع هذه التجارب أستثقل الاستماع إلى الكتاب دفعة واحدة، حتى تجرّعته دفعات.


[٤]

يجعلك هذا تقدّر ما تقدّره أصلاً من هدي الدين وقيم الثقافة الأصيلة، فيهما ما يصون النفس ويحفظ كرامة الإنسان، بإعلاء قيمة هذه الروابط من جهة، وبالإيمان الذي يشدّ أرزاق الحياة إلى قيمها الدينية، ويَنظِم مفاهيم “السعي” والعلاقات إلى المعنى المعتَبر في الدين فتُحفظ النفوس عن التبذّل، وتصان الأرزاق عن معايير السوق واستعجال التكسّب، وتُوقَ الروابط الإنسانية شحّ المقاييس المادية التي تطحنها أو تُسيّلها، أو تُذيبها أصلاً.

وأنت في تأملّك هذا واطمئنانك إليه، أو زهوك به، يظهر لك مختص ينتمي للدين والثقافة نفسها، لينقد على البنات ممن انتصفن الثلاثين معايير اختيارهن، وينصحهن على الشاشة، وفي مقابلة تلفزيونية مسجلة مسبقاً، “نصيحة” تتكرر (هي -في الحقيقة- دُونَ نصيحة لوري الأساسية بالقبول بزوج يبلغ حد الكفاية)- وهي: أن تتزوج البنت لتتخذ من الزوج “مكينة تفريخ”: تنجب طفلاً أو اثنين، ليكون طفلها هو زوجها!، أو تكون وظيفتها هي زوجها!، وهي “نصيحة” من شأنها أن تجعل تكوين الأسرة أولوية مؤجلة أو هامشية، في مقابل استعجال الأمومة بدقّ نواقيس فواتها. ليس هذا فحسب، بل تنطوي على اختلال جذري في فهم  الروابط الإنسانية وفي وضعها مواضعها (لا أدري بأي معنىً يأخذ الابن مكان الزوج، أو تسدّ الوظيفة التعاقدية مكان رابطة تراحمية؟!)

لسنا ننازع أحداً في اختيارته، مادام يعرف من نفسه ما يناسبه، ويؤديه حقَه، وليست تقصد هذه التدوينة شيئاً من هذا، فلتختر الأمومة من تريدها، ولتستعجل لها إن رأت ذلك، ولتختر الوظيفة من تقدّمها على باقي الحاجات. غير أن “النصيحة” التي عرض إليها هذا المختص مؤدية إلى أن تربي الأم طفلاً على غير معونة من أب، أو على تراخٍ فيها، ولهذا تبعاته وتكاليفه التي قد يتعاظم أثرها وكُلفتُها، ولم تؤدِ تلك “النصيحة” حقّ التنبيه لها.


[٥]

تقول الجدات الأقرب إلى قيم الثقافة ومعانيها ما لا يقوله رأي معالج نفسي: “الزيجة مثل الميتة”: قدر محض، لا يُعجِل إليه سعي، ولا يمنعه انشغال، والرزق مكتوب لا يأتي به تَبَذّلٌ في تَطَلُّب أسبابه.

وفي تاريخ العرب: ضنّت عربية بجينها وهي تتطلّب الأمومة: فارقت هند بنت عتبة زوجاً لها في الجاهلية إذ قال لها كاهن: ستلدين ولداً يسود قومه، لتنجب من زوجٍ غيره. (ولم تُحِل هند السيادةَ في الولد إلى ما قد يرثه من جينها، ولكن تخيّرت لطيب مَنْبَته).

بينما المختص -وهو يقدّم “نصيحته” هذه على التلفاز، كان هو ومحاوره يحيلان إلى ما قد يرثه الابن من صفات الأم في دفاعهما عن التراخي في الاختيار: أن الولد الذي تنجبه المرأة من رجل لا يُعرف طيبه قد يرث من أمه صفاتها مما يسهّل تربيتها له! في ظروف ولادة يوجَّه لها على علمٍ مُسبق بغياب دور الوالد أو تراخيه، فيما يشبه التأصيل لموقف فردانيّ، بحيث تصيّر الأسرة أداة يتوصّل بها إلى ما يريده الأفراد لأنفسهم منها، مع غياب رابطة فاعلة تتحقق بينهم).


زاوية:

الإنجاب عند العرب: الإتيان بولدٍ نجيب، لا محض الولادة، يقال: أنجبتْ المرأة أو أنجب الرجل بولد، وكأن التربية عندهم فرع عن الولادة غير منفك عنها، فتكون الولادة فِعلُ إثمارٍ يتحقق في معنى الحياة في الولد، لا محض الحياة.


هامش:

** ليست حالة الاستحقاق، بوصفها موقفاً نفسياً مؤصلاً، مقتصرة على الفتيات، ولا في أمر الزواج وحده، بل تراها قد صارت موقفاً عاماً يرى ويُلاحظ، في الواقع المُعاش، في نزعة استيفاء “الحقوق” بل والتوسّع فيها، والتراخي في كثير من الواجبات، في تعاملات شتى في الحياة.


الصورة:

الفوضى في الصورة برعاية نورة وابنتها حصة (أيام للذكرى).

1 Comments

أضِف تعليقاً

اشترك في القائمة البريدية، تصلك آخر التدوينات.

Sign Up to Our Newsletter

Be the first to know the latest updates