بيتر .. هذا الشاب الأوروبي المسلم .. عمره في زمن النور عامان ..
التقيته على طاولة بحث في مقاعد الجامعة .. كان مُتحفظاً وحريصاً ..كأنه قادمٌ للتوّ من ربى نجد ..
وكنتُ غارقةً في فكرة النور .. كيف يعرف طريقه للقلوب .. في زمنٍ لا نكون -نحن معتنقيه سفراء خير له- ..
لكنه يعرف طريق الوصول .. لا تَسَل من أي الشُقُوق ينفذ النور .. لا تتعجب إن كانت الإنكسارات ممراً للنور ..
كنتُ أتفكر .. ما الذي أغراهُ بهذا الدين .. وهو الذي لا يعرف عن الإسلام إلا صورأ متناثرة من وراء شاشات فضية:
امرأة تغطي وجهها ولا تُظهر إلا عينيها .. ورجل له زوجتان .. وبُرجٌ وطائرة .. وبوصلة موت ..
وتطوف بخيالي المواقف المتعاقبة سريعاً ..
سائق سيارة أجرة قال لي يوماً: حسناً، إذا اقتعت أن الإعلام قد شوّه صورة الإسلام والمسلمين .. فهل سأقتنع من مباراة كرة قدم “في أوطانكم” .. بعيداً عن كاميراتنا السينمائية يقتل فيها سبعون إنساناً .. إلا أنكم تحترفون الموت ..
وشابٌ أوربي آخر .. يبتسم ابتسامة مستفزة.. وأنا أتحدث في محاضرة في صيف 2011 عن أوطاننا ..عن الربيع الموعود .. عن فضائل المجتمعات التي يقتلها الاستبداد .. عن الحرية التي سنكون بها مانريد .. وعن أننا لَسنا بِدعاً من المجتمعات الإنسانية .. التي لا يمكنها أن تستكمل فضائلها الإنسانية إلا في أجواء العدالة والحرية ..
وكان يبتسم بربع شفتيه .. وينظر إلي برُبع عينيه .. وكأنه يرى أن الربيع لا يليق بالصحراء .. وأنا أراهنه على الزمن .. ثم أخسر الرهان ..!
وصور كثيرة ..
باحث بريطاني أجرى دراسة ميدانية عن الوضع الاجتماعي للمرأة في مجتمعاتنا الخليجية.. وعن تسلط الرجل .. وجالس فئة من النساءاللاتي ينتمين لبيوت محافظة “تمارس الإسلام” .. كيف يمكنك أن تقنعه بعد ذلك بنظريات حقوق المرأة في الإسلام؟
ومسرحية “ليالٍ عربية” التي حضرتها في مسرح المدينة عن حكاية الثورات تحكيها شهرزاد.. فلم تحكِ إلا عن كشوف العذرية .. والجماعات المسلحة .. ثم كان خاتمتها صوت أذان .. تسكت به شهرزاد عن الكلام المباح ..
لكن النور .. يعرف طريقه .. لا تسل من أي الشقوق ينفذ النور ..
ويغلق بيتر قلمه .. وأكتبُ الملاحظة البحثية الأخيرة وأطوي الدفتر ..
وأنا غارقة في في فكرة النور ..
– “بيتر … هل لك أن تخبرني كيف أسلمت ..؟”
فحكى لي أنه قد التحق بمقرر دراسي في معهد الدراسات العربية والإسلامية في الجامعة .. وأنه التقى بفتاة انجليزية مسلمة .. وأنه … ثم سكت ..
وكأنه خَجل أن يَذْكُر شيئاً من أمر “الجاهلية” .. في عُمُر “الإسلام” ..
ثم قال فجأة – وقد بتر فصلاً من الحكاية- : “وأخبرتني أنها لا يمكن إلا أن تتزوج مسلماً ..”
هو الحُب إذاً .. الجسر الذي عَبَر به إلى الإيمان .. والشَّقُّ الذي تسلل من خلاله النور ..
والمسلم الجديد .. يريد أن يغتسل من أدران الذنب ..
ولذلك حكى لي حكايته مبتورة ..
ثمة شيء يُربكه .. المسافة بين السيئة والحسنة .. وبين الطهر والخطيئة .. بين الحب والذنب .. بين المرأة والرجل ..
– الحب ليس عاراً يا بيتر .. الحب الصادق يهدي إلى الإيمان ..
هذا الدين يا بيتر .. دين الفطرة .. والفكرة .. دين العقل والروح ..
دين الإنسان الذي سجدت له الملائكة ..
وانتهى الفصل الدراسي ..
وعادت الفتاة الإنجليزية إلى مدينتها .. و لم يُسلِم بيتر بَعدُ .. وافترقا ..
ولكن الحُب كان قد أدى مهمته .. فتحَ باب القلب للنور .. ورحل ..!
– وكنتُ مُلحداً حينها .. لا “أؤمن” بشيء .. ولكني كنتُ “أشعر” أن هناك شيئاً ما .. الإلحاد على المستوى الشعوري خُرافة ..”
وأَكملَ :
“ولم أكن أعرف عن الإسلام إلا أنني يجب أن لا أخالط النساء ولا أسمع الموسيقى ..
“وسألته في ليلةٍ مُظلمة .. حالكة السواد .. لم يكن هناك أي نور .. فقلتُ له: ” أنا لا أعرفك .. فإن كنت موجودا.. فدلني عليك ..”
فومض في الفضاء برق .. انعكس في عيني .. هزني هذا الومض بعمق” ..
وأنا أستمع لبيتر .. كأنما بللني مطر .. تذكرتُ أولئك الذين قالوا: “اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذابٍ أليم”
ويحهم لو قالوا: “إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه ..”**
ما أقرب النور ..
لا تَسَل كيف يتسللُ النور ..
وسألتُه:
“أنا ولدت مُسلمة .. حدثونا عن الله كثيراً في البيت والمدرسة .. وحلقات الوعظ .. فتكون في أذهاننا ومشاعرنا تَصَوّر عن الله.. ثم كبرنا وعرفنا أن الله أجمل وأعظم من كل ما يقولون ..
وأنت؟ كيف تعرّفت عن الله ؟
قال: “أنا أحدث الله كثيراً .. أحكي له عن أيامي .. متاعبي وأمنياتي .. Allah is my best friend “
فقلتُ في نفسي: “اللهم أنت الصاحب .. والحياة سَفر ..”
قال بيتر: سألت صديقاً عربيأ ذات مرة -وكان مهموماً بهَمٍّ دراسي-: “هل قُلتَ لله”
قال: “أنا أدعو في صلاتي”
فقلت له: “أنا لا أتحدث عن الدعاء يا أحمد .. هل شكوت له ما تجد .. هل تبوح له؟
أنا أحكي له تفاصيل يومي ..أخبره عن كل أشيائي”
وشيئاً فشيئاً بدأ بيتر يكون أكثر وضوحاً .. وأقل حذراً .. وتحفّظاً ..
كان واضح أنه على المستوى الروحي مؤمن جداً ..
“هذا الدين مقنع جداً روحياً وعقلياً .. أن تعبد إلها واحداً .. تعبده مباشرة بلا واسطة .. تنكشف له .. وتدعوه بلا موعد ولا وسيط ..”
“لكن الإسلام واسع جداً ورحب ..”
وبدأ يتحدث عن الاختلافات الثقافية بين المجتمعات والشعوب ..
وبدا لي أنه –كمسلم أوربي- مرتبك من بعض الاختلافات الثقافية والاجتماعية التي قد لاحظها أثناء تعامله مع بعض المسلمين ..
تصوراته عن الإسلام .. يبدو أنها تخالفت مع تصورات المسلمين عن الدين .. أو يبدو أنه تلقى صورة عن الدين مغلفة بغلاف عاداتنا وتقاليدنا .. لا تناسبه ..
المسافة بالنسبة له لم تكن له واضحة ..
فقلت له:
” هناك مسافة بين تعاليم الدين وأنماط المجتمعات .. وأنت يا بيتر .. قد تركت حياتك السابقة من أجل هذا الدين الجديد .. وليس من أجل أنماط ثقافية أو اجتماعية لن يسألك الله عنها ..
وأنا كعربية مسلمة من الجزيرة، فخورة بكثير من عاداتنا وثقافتنا .. غير أني يجب أن لا أخلط بين الدين والتقاليد العربية وأقدمها في قالب واحد وكأنها جزء من الدين .. لأن الإسلام –ببساطة- للبشرية كلها .. وليس للجزيرة وحدها ..
هذا الدين يا بيتر نزل لتستكمل به البشرية إنسانيتها .. فكل فضيلة إنسانية فهي من الدين ..
ودّعتُه .. وأنا أفكر بهذا المسلم الجديد .. الذي تلقى الدين على غير تصوّر مسبق .. فانسكب فيه معنىً من الإسلام الخالص ..
ومازال في الجزيرة شيء من سفه قريش .. إذ “تحسب أن محمداً قد بُعث لها وحدها” ..!**
وظللتُ منشغلة بالفكرة .. وأنا حين أنشغل بالفكرة أجعلها وِرداً من حكايات المساء ..!
وحكيت لأبي وأمي .. وصديقاتي ..عن هذا الحوار الذي ألهمني كثيراً .. وآلمني ..
عن الإسلام الذي نزل من السماء .. والإسلام الذي نصوغه في الأرض ..
وطلبتُ من موقع الأمازون كتاب ترجمة الحكم العطائية باللغة الإنجليزية .. وسلسلة محاضرات في السيرة النبوية .. لـ حمزة يوسف ألقاها في إحدى الجامعات البريطانية ..
وأرسلت له إيميل:
“أخي بيتر ..
مرّ أسبوع .. وأنا مازلتُ أفكر في كثير من حديثنا عن الإسلام .. وفي تصوراتنا وفهمنا للإسلام ..
كان ذلك مُلهما جداً ومؤلماً .. في ذات الوقت ..
ولأني ليس لدي ما أقوله .. ولأن الكلمة الأولى التي نزلت من السماء: “إقرأ” .. تركتُ لك هدية بسيطة عند مكتب الاستقبال في المسجد (كتاب عن أعمال القلوب .. ومحاضرات في السيرة) .. لعلّ سيرة الحبيب تقطع بنا أميالاً في فهم الدين .. من النور الأول ..
تحياتي ..
حصة”
19 Comments
'@JA_KW
تحياتي وتقديري لمدونتكِ الكريمه ..
وددت ان اتم قراءتها بالكامل ولكن لا اجد الوقت لذلك ..
بداية جميله ورائعه وشكري موصول لاناملك الراقيه وافكارك العذبه ..
@JA_KW
twitter
هتون الشرق
رائع وواقع ماقرأته هنا ..
يبقى الإسلام ذلك النور الذي يضيء عتمة الروح ..
هو ذلك الطريق الذي تسلكه لتسير للأمان ..
جهاد الكندري
لا تسل من أي الشقوق ينفذ النور
رائعة أنتِ ساحرة كلماتكِ يا حُص
دام قلمك مشعلا وضاء
نافذة النور
الجروح نوافذ الروح.. يتخلل منها النور ليلقي في الروح حقيقة الله والحياة..
ما أحوجنا لمصاحبة الله.. الصاحب في سفر الحياة..
كلمات تشع نوراً.. تدفئ القلب..
دمتِ رائعة يا حصه.. و زادك الله نوراً
هدى الدهيشي
“وسألته في ليلةٍ مُظلمة .. حالكة السواد .. لم يكن هناك أي نور .. فقلتُ له: ” أنا لا أعرفك .. فإن كنت موجودا.. فدلني عليك ..”
تدوينة فيها شجن حزين يدعو للبكاء ، لكنها من أروع ماقرأت مؤخراً.
شريفة
ذكرتني بهذه المقولة:
“ذهبتُ للغرب فرأيت إسلاماً ولم أرى مُسلمين، وذهبت للشرق فرأيت مُسلمين ولم أرى إسلاماً.”
لــ جمال الدين الافغاني……
فما بالك لو أسلموا؟!!!
المنعي
وأنا أقرأ هذا النور كنت أحدث نفسي.. لعل الله أراد ببيتر خيرا حين كنت أنتِ من تحدَّث معه بهذا الجمال المطمئن.. وأراد بنا خيرا حين تحدثتِ عنه بهذا العمق الواعي..
نور على نور يا حصة.. مقال مما تخلده الذاكرة فيما قرأت..
حصة
وأراد بي خيراً حين قرأتموني : ) بلا شك ..
خولة
احيانا يكون النور قريبا منا فلا ندركه نظل نتخبط في عالمنا لنصل إليه فنجد الخير وهذا ما وجده بيتر وامثاله كثر … جميل تصويرك بارك الله فيك
عبداللطيف الخنيني
من ابداع الكاتب انه يقدم لك الفكره وكأنك لم تعرفها من قبل.
اسرتني المعاني والكلمات وغبت عن محيطي متأثرا بجمال العِبره والعباره.
عرفت معنىً (جديدا) :مناجاة الله !!
حصة
هذا المعنى ذَكَرَهُ بيتر حرفياً ..
وما أنا إلا حاملة للنور .. بائعة للورد ..
ولا زلتُ أظن أن لعلّ بين هذا الإنسان وبين الله خبيئةً بارَكَت كلماتي ..!
عبدالله الحيدر
ها عدت وعاد معك قلم النور تبارك الله تبارك الله
ما خطه القلم صدقته الكلمات
ماً اروع التحدث بين أحلام وآمال
وبين من يعيش لحقائق الدنيا
دمت وحفظك الله
اسراء المعتوق
فكرة تسلل النور رائعة
كروعة صاحبتها
توفيق الاحمد
جزاچ الله خير يا حصة
كلام طيب ، و حوار ناعم باحث عن الحق .
فعلا قوله” إن كنت موجوداً ،،،
،،، فدلني عليك ”
نحن لا نفكر كذلك لأننا ولدنا مسلمين
مع أننا نحتاج لشيء شبيه به .
الله عز وجل موجود لكن كثيرين لايعرفون كيف يصلون إليه .
ﻫﺎﺩﻱ
ﻛﺜﻴﺮ ﻫﻢ ﺃﻣﺜﺎﻝ ﺑﻴﺘﺮ ﻣﻤﻦ ﻳﺒﺤﺜﻮﻥ ﻋﻦ ﻣﺼﺪﺭ ﺍﻟﻨﻮﺭ ” ﺍﻟﻠﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ” ﻭ ﻗﻠﻴﻞ ﺃﻣﺜﺎﻟﻚ ﺣﺼﺔ ﻣﻤﻦ ﻳﻘﺪﻣﻮﻥ ﺍﻟﻮﺟﻪ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﻲ ﻟﻺﺳﻼﻡ ﺑﺴﻤﺎﺣﺘﻪ ﺑﺸﻤﻮﻟﻴﺘﻪ ﺑﺎﻟﺤﺐ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﻲ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺪﻋﻮ ﻟﻪ … ﺍﻟﻬﻤﺘﻴﻨﺎ ﺑﺴﺒﻞ ﺍﻟﻬﺪﺍﻳﺔ ﻟﻨﺎ ﻭ ﻟﻠﻐﻴﺮ … ﻻ ﺯﺍﻝ ﺑﻴﺘﺮ ﻭ ﺃﻣﺜﺎﻟﻪ ﻳﺤﺘﺎﺝ ﻟﻨﻮﺭ ﺑﺼﺎﺋﺮﻛﻢ ﻓﻼ ﻧﺘﺮﻛﻬﻢ
فارس
اكثر ما اعجبني انه يتحدث مع الله يشكو همومه و يبوح بكل ما في قلبه, بعد اثنين و عشرين سنه من عمري و في بلاد الغربة شعرت ان الله قريب الى قلبي و بدءت افعل ما يفعل بيتر بالضبط حديث مع الله من القلب في الليل في النهار في الخوف في الشده في الرخاء و حده الله يعلم الارتياح الذي اشعر به كلما تحدثت معه و كأنما انتهت كل مشاكلي و همومي.
نقطة اخر الدين و الثقافة او العادات و هي اكثر نقطة حرجه إذا تخرج الدينا حتى عن سياقه الايماني الى سياق المظاهر و الشكليات و كأن الإسلام دين العرب فقط و رغم ما تسببه هذا النقطه من حرج لكن بالايمان وحده يمكننا ان نفرق بين مقاصد الدين و بين اغلفة الثقافة.
سعدت جداً و انا اقرء شكراً جزيلاً لقد كان ممتعاً جداً
عادل سلطان
جميل جدا أن نتمثل بالرُسل في دعواهم الى الحق،
والأجمل أن يكون “بيتر” سببا لدخول الجنة.
حصه..
لاتعليق يفي حق اهتمامك النور وقلمك الذهبي
وفقك الله الى مايحبه ويرضاه.
BaYan
لكن النور يعرف طريقه لا تسل من اي الشقوق ينفذ النور حبيت ^__^.
ام صالح
ابدعتي بنيتي بعبارات بسيطة لذكر تفاصيل جميلة بتشبيهات جذابة
بانتظار المزيد