أن تَحضر ولادة حُلُمٍ .. وُلِدَ على طول انتظار ..
في يونيو 2012 كنت في ميدان التحرير ..
كانت القاهرة في النهار مدينةً تَتَمَخَض ..
وفي الليل جميلةً تدعو عشاقها وتَصُدّهم .. في ذات الوقت ..!
في الميدان .. كانت أمواجٌ بشرية .. مِن غناءٍ وعَناء ..
وكان الغناء .. نزفٌ من عَرقٍ ودم ..
“عَلّي وعلّي وعلّي الصوت ..
احنا الشعب الخط الإيه؟؟
احنا الشعب الخط الأحمر ..
يسقط يسقط يسقط إيه؟؟
يسقط يسقط حكم العسكر ..”
سيدةٌ على المنصة تهتف .. ويرد الميدان ..
وطفلٌ على الأكتاف .. يهتف لهتافه الرجال ..
في لحظات ميلاد الحلم تصبح الأعمار روحية .. من يَسَعُه أن يَحُلم أكثر .. فهو الأكبر ..
وهل يُتْقِنُ الحُلُمَ كَقلبِ امراةٍ وطِفل ..
لا تملك حينها إلا أن تنتزع صوتاً من قلبك: ارفع راسك فوووووق انت مصرري ..
مصر .. وما مصر ..
يحدث أن يتكثف الحلم العربي في بقعة .. لتحمل رمزية كل الأوطان ..
كمحبوبةٍ .. أضحت في قَلْب مُحبّها كل النساء ..!
مَن مثل مصر .. يكفيك أن تطل من شرفات نِيلها لتعرفها ..
تمتزج رَقْرَقةُ أذانٍ في ترنيمة أغنية .. ويتداخل بريق ألعاب نارية مع صوت سيارة إسعاف ..
مدينةٌ تستقبل الجرح باللعب .. وتتوضأ على مَسْمَع أغنية ..!
وكنتُ كظامئٍ يُسرِف في شُرب الماء .. في غداة صيام .. وهل يُغري القادم من بلاد النفط والصحراء .. إلا حلماً معجوناً بالعَرَق .. والإباء ..
وأتقدم مبهورة سكرى بالنغم .. أريد أن ألتقط صوراً أكثر وضوحاً .. أحتاج أن أملأ عينيّ بالصورة ..
ويفسحوا لي الطريق بودّ ..
هنا .. الرعاء قد وَرَدوا الحرية حتى ارتووا لذلك فهم يفسحون الطريق لفتاة .. تحتاج لرشفة من مائهم ..
يلتفت بعضهم إليّ يسألني: “مصرية؟؟” وأُقدّر أن الملامح الخليجية قد لفتته .. فأجيب على عجل: “أيوه نوبية” ؛))
وأمضي نحو الحشود كأنما نبتت لي أجنحة .. يَحْدُثُ أن يستغرقك وطنٌ .. فتنتمي إليه للحظة ..!
قُبيل الانتخابات .. كانت شباب من الثوار قد نظّموا حملة مقاطعة .. يعتصمون ويتظاهرون في الشوارع .. يدعونك أن تُقاطع الانتخابات .. بشكل ما .. لا يمكنك أن لا تتفهم وجهة نظرهم؛ كانوا متوجسين من أن تَقُدّ الدبابةُ قميصَ الحُلُم .. أو تأتي عليه بديمقراطيةٍ كَذِب ..
وآخرون يَدْعون بكل ما أوتوا من همةٍ إلى الصندوق ..
في يوم اعلان نتيجة الانتخابات كانت القاهرة تفرك يديها قلقاً وتوجُّسا..
وفي المساء .. كانت الشوارع ترقص رقصاً .. وتُلوّح بالعلم ..
كنت أتجول في شوارع البلد برفقة صديقة كفيفة .. لم أكن أصف لها ما يحدث من احتفال لأني كنت مشغولةً بالغناء .. لكنها استطاعت -لفرط البهجة- أن ترى كل شيء ..
اتصلتْ بها صديقتها فصارت هي تصف المشهد بدقة: “يا منى احنا في مصر .. لو تشوفي الفرحة والمسيرات .. الشباب فوق السيارات بيغنوا .. والأطفال ما احلاهم .. الشوارع ملياااانة .. ناس بتمشي وناس بالسيارة وناس بالدراجات .. شي فوق الوصف يا منى .. مشاهد ما بتكرر ..”
وبعد الانتخابات .. وبعد الاحتفالات .. عاد الميدان ليستكمل المهمة ..
“لن نرحل إلا برئيس له صلاحيات كاملة ..”
“ارحل يا مشير ارحل ياعنان .. أنا مش جبان أنا مش جبان ..”
أسأل فتاة مصرية منقبة عن المنصّات المختلفة للميدان .. فتشير: “هذه منصة الإخوان” ..
وأتلفّتُ فلا أجد غيرها .. “حسناً؛ يجب أن تكون منصّة الجميع يا عزيزتي ..”
وجاء الرئيس المدني المنتخب .. ليُقسِمَ أمام الشعب ..
الجمعة 29 يونيو 2012 كان الميدان قطعة من التاريخ الذي لا يُكتب .. اللغة تعجز أحياناً عن جلالة الحدث ..
شبابٌ وشيوخ .. عُمّال وطلبة .. أزهريون ومسيحيون .. نساءٌ وأطفال ..
“أقسم بالله العظيم ..”
لا أرى سوى قبضة شابٍ أمامي تُلَوّح في الهواء .. دموع .. وعرق ..
وفتيانٌ من الأخوان جاذبتهم الحديث .. كان أحدهم ودوداً متفاعلاً .. وآخر متحفظاً ..
تحدثنا عن الدولة .. عن الهتافات والشعارات المرفوعة .. عن الميدان الملوّن ..
حدّثتهم عن شوارع بريطانيا .. التي تسألني عن أخبار الحرية في مصر ..
عن السائق الذي صرخ بهستيريا وألم عندما حدثته عن البوعزيزي ..
عن بائع الخضار الإنجليزي الذي قال: إننا نترقب ميلاد الحرية في مصر .. نتابع أخبارها ..
عن الطالب الأمريكي الذي اختار في بحث الماجستير أن يُثبت أن “مفهوم الحرية” بمعناه السياسي أصيلٌ في الثقافة العربية .. وليس منقولاً من الثقافة الغربية ..
ثم كتَب في خاتمة بحثة هذه الفقرة:
“ابتدأتُ هذا البحث في عام 2009 واخترتُ أن أبرهن على أصالة مفهوم الحرية -بمعناه السياسي- في الثقافة العربية .. لم أكن أتصور أنني حين أختم هذا البحث في 2011 ستكون شوارع تونس ومصر .. هي الدليل العلمي على فرَضية هذا البحث ..”
ونساءٌ .. وعُمّال .. وأساتذة جامعيون ..
مازال للحُلُم بقية ..
ومازال الناس -وإن وُلِدوا أحراراً- مُحتاجين إلى تَعَلّم الحُرّية .. -كما قال طه حسين- ..
شباب مِصْر .. نستودعكم الحُلُم .. أن تُسَوِّل لهم أنفسهم أمراً .. أو يأتوا على قميص الثورة بديمقراطيةٍ كَذِب ..!
نستودعكم التعايش .. كما كان في الميدان الأول ..
نستودعكم أقفال السجون .. ألّا تُفتح إلا بحقها ..
نستودعكم المنابر .. أن تحفظ الرأي .. وتمنع البغضاء ..
نستودعكم الربيع ..!