استشهدت محاسن البارحة، استشهدت في غرفتها في جباليا، حين استُهدفت عمارة بجوار منزلهم فانهال شيء منها على غرفة محاسن -بحسب ما أخبرتني به إسراء-.
كنت قد تعرفت على محاسن من إسراء. لم يكن العمل الذي تقوم به محاسن يقع في نطاق احتياجي، فمحاسن رسامة محترفة، حاولت أن أقنعها أن تجري تحسينات شكلية على المدونة لكنها قالت: “أنا رسم وتحريك نمبر 1”.
عذبة الروح على نحو لا يمكنك أن تتصوره:
“حيا الله بحصة، ويا زين حصة”.
تحاكي الطريقة الخليجية بالترحيب.
جوالها يردّ عليك الرسالة دائماً:
“أهلا أصحاب الرد، إن ما ردّيت مافي نت، أول ما يشبك أنا معكم”.
صوتها فيه حياة دائماً، تماماً كما في المقطع: نحن بخير، طمنونا عنكم. على نحو لا يمكنك أن تتخيل معه أنها في حرب، وفي أكثر رُحاها طحناً. وتُراعيك في السعر، عن غير مراجعة، على نحو يذهلك.
تضحك دائماً، ولذا لم يخطر ببالي أنها ستموت، كأنما هي على وعد من الحياة، أو كأنها ترى ما لا نراه. ترسم، وتقيم دورات رسم -عن بعد- تحت أصوات القصف، وكان آخر ما رسمته وجوه تلتهمها النيران، كانت تكتب على الرسومات أنها تشعر بالغضب. لكنك لا تشعر بهذا إن تواصلت معها.
“بدّي أعطيك يوم الأحد نموذج، ومنّو بننطلق”.
كنت قد قررت متأخراً أن أعطيها قصة مصورة لوالدتي بعنوان (أمانة رجلين) لترسمها رسوماً متحركة. كنت قبل ذلك قد عرّفتُ بها صديقتين أعمالهما تقع في مجال موهبة محاسن، وتتطلب نوعا من الاحتراف.
ثم وجدت شيئاً يدفعني إليها، إذ كان فوق طاقتي أن أؤجل، ويدها تريد أن ترسم شيئاً، يظهر لك هذا من صفحة القصص (على الوتساب)، والمشاريع الاحترافية التي تحتاج مثل موهبتها تؤجّل كل مرة.
قالت إنها ستعطيني مسودة اللوحة الأولى الأحد.
راحت محاسن إلى الله، وتغانت -كما نقول في دارجتنا-، أي أنها استغنت في جوار الكريم.
وبكيتُ أنا على التأجيل.
والدرس من هذا أنْ عِش وفق معاييرك، واحسب الوقت بساعة زمنك، وعُدَّ من الضرورات ما يراها حِسّك ضرورات. احفظ حساسية وعيك بالأشياء، إنْ أنت وُهِبتها. لن يَعِدُك العالم في معاييره إلا اختلالا.
ويكفيك -حينئذٍ- من تمراتك، أنصافها، أو جذع هززته على ضعفٍ مِن ساعِدك، تُوهب به أرزاقك من السعي، أو من المعنى المعقود بالسعي.
زاوية:
هل تخبرك الأيام التي مضت أن أعظم المواقف تكمن في الأدوار “العادية”، إن أنت راكمتها وثبتت عليها، وأن البطولة كامنة في الدور لا في الإنجاز؟
اعتذار:
دون الرثاء، وفوق اللغة.
استغناء:
تصدّقت محاسن عن نفسها من كسب يدها، مسبقاً، حين نشرت دورة لها عن (الرسم الرقمي) أتاحتها مجاناً، وقالت:
السلام عليكم، رابط دورة من دوراتي السابقة بشكل مجاني، بنية الدعاء والفرج لغزة،
وبنية إن متّ تبقى صدقة عن روحي.
علمٌ ينتفع به.
كثفوا الدعاء وسامحوني.
التفات:
لم يخطر ببالي لحظةً أنها ستستشهد، لحظة تلقيتُ رسالة إسراء، الفجر: “محاسن استشهدت”، لم أصدّق أني أقرأ الكلمتين معاً في جملة واحدة. محاسن قالت في تعريفها عن نفسها (في صفحتها على إنستقرام) : “صامدة في الشمال”، وتلقّى عقلي هذا على أنه وعد بالنجاة. ولم أفكر بغير ذلك.
كانت هذه هي المرة الوحيدة التي تأخرتُ، حين أجّلتُ البدء بالعمل معها شهراً، وهنا تكمن زلتي؛ زلتي بأني رَكًنتُ لحظةً إلى معيارِِ غيري، وبهذا تأخرتُ. كنت دائماً أشعر -تنشئةً وطبيعةً- أن قصيدة (عنوان الحكم) تعطينا تعاليم لازمة للحياة، ولم أحاكمها، إلى معايير أخرى، إلا تلك اللحظة.
أحسِن إذا كان إمكانٌ ومقدرةٌ
فلن يدوم على الإحسان إمكانُ
وكن على الدهر مِعواناً لذي أملٍ
يرجو نداك، فإن الحر مِعوانُ