“فَقَضَى حَاجَتَهُ تَكْمِلَةَ الْمِائَةِ حَاجَةٍ، وَأَمَرَ الْكَاتِبَ فَكَتَبَ لَهُ عَهْدَهُ، وَخَرَجَ بِهِ ابْنُ جَعْفَرٍ إِلَى الدِّهْقَانِ، فَسَجَدَ لَهُ وَحَمَلَ إِلَيْهِ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ جَعْفَرٍ: اسْجُدْ لِلَّهِ، وَاحْمِلْ مَالَكَ إِلَى مَنْزِلِكَ، فَإِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ لَا نُتْبِعُ الْمَعْرُوفَ بِالْمَنِّ. فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةَ فَقَالَ:
لَأَنْ يَكُونَ يَزِيدُ قَالَهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ خَرَاجِ الْعِرَاقِ، أَبَتْ بَنُو هَاشِمٍ إِلَّا كَرَمًا.
وخراج العراق، إذ ذاك، يعادل -موضوعياً- إيراد النفط اليوم، ودّ معاوية الكلمة لابنه بثمن خراج العراق.
تُبادل صديقاً أفكارك، وأنت منشغل بإنجاز مشروع، أو تحاور مهتماً في معرِض إنتاج منتج أو مادة، فيعرض لك من أفكاره أو نظراته التي يصوغها بعباراته من الزاويا ما لم تكن لتلتفت إليه لولا هذه المحاورة، وتتمنى أن تضيف هذا إلى عملك، يغريك جمال الفكرة والتطلع إلى لاكتمال الزوايا في ما تنتج، تحب أن تكون كلمات غيرك لك، فيسمح بها لك صديق، أو يسكت عنك مهتم شاركك إياها، وتتسامى نفسه عن مشاحتك في نسبتها له إذ رأى فيك حب تَمَلُّك لها، وليس هو بغافلٍ عن نوازعك، يَكِلك إلى معرفة الأقران بأصول المهنة، وسياق الطلب.
ما موقفك النفسي، والفعلي من كلمات غيرك التي تشتهي أن تكون لك؟
أذكر أنني افتتحت بحثاً لي بعبارة تَصلُح مفتَتَحاً لبحث مثل هذا، كنت قد استوحيتها من باحث سابق، في موضوع مشابه، فأحلتُ في أول هامش إلى ذلك الشخص، وقلت لإحدى الصديقات أن نفسي تأنف أن أغرف من مشرب غيري، ولي مشاربي التي أعرفها وأعرف نضح مائها.
يقول الإيقو في داخلي “ليش ما أنسب عبارته العادية له، هو يعني له من الفكر والنظر ما لا أملك؟، ننتج من حُر أفكارنا ما يضاهي ما ينتجه غيرنا، ونرفع يدنا عن أرزاقه، أو نستثمرها بتطويرها، لنا أرزاقنا من المعارف وله أرزاقه”.
نحن أفراس رِهان يا رفاق، نتحاذى كلنا، ومن هذه المحاذاة تنشأ أخلاق التنافس، ولكل نوازعه، التي تختلف مظاهرها. كلنا نتشاحّ ونتسابق إلى التحصيل، وكلّ له من حظ نفسه طرف، غير أني حظ نفسي وقدرها عندي يتمظهر في أني أحيل إلى عقول غيري، أنسب إليهم ألفاظهم، أو ما استقيته من أفكارهم وطوّرتها لاحقا.
أفعل هذا في اقتباس قرأته وعَلُق بذهني ولم أعرف كيف أجده؛ فأقول أن هذا الاقتباس عالِق بذهني، ولم أعثر عليه في مظانه. أو أفعل هذا في نسبة فكرة لفلان الذي عَرَضها على الباحثين -في محاضرة قبل سنوات- واقترح عليهم أن يوسعوا النظر فيها، أو أحيل إلى تغريدة: كتب فلان مثل هذا في تغريدة، ثم بدت لي وجهة نظرٍ من زاوية ما كتب (فأول الخيط له، وآخره بيدي).
قالت لي صديقة مرة عن هامش نسبتُ فيه رأياً سَمعُته، لصاحبه- أن هذا -مِن وجهٍ- يُضعِف نَصّي، فقلت لها أن الفكرة مِلك لصاحبها، وأنا أعرف أنها له، فما يمنعني من نسبتها؟ وبأي حق؟
أنت ترى طِباع المشاحة عند الكتّاب، في تناقل آرائهم أو تبادلها، تتفهم هذا مرة، ومرة لا تفهمه، أو تأنف بعضَه أطباعك فينفّرك عن مثل هذه التجاذبات. ليس على أحد منا يبحث عن الكمال في أحد، لم أجد الكمال في نفسي لأبحث عنه في غيري.
كلنا نحب أفكاراً نجدها عند غيرنا من أقراننا وتغرينا. غير أنه لن يُنقص من رزقك أنك تحيلها له، هذا واجب، وهذا حق، وهذه أصول المهنة المستقرة في تقاليد وضوابط الأمانة العلمية، وقد قالها العربي القديم أولاً: “الحر من … انتمى لمن أفاده لفظة”. وكأن العرب سالفاً يعرفون قيمة الكلمة عندهم، ورغبتهم إليها وحبهم لامتلاك جيّدها، وكأنهم قالوا أن رغبتك هذه تأسرك، وأن الحر من يتغانى بأن يقرّ بانتماء اللفظ لصاحبه.
تتيح الوسائل في هذا الزمن، مع ارتخاء الضوابط والأخلاق واتساع المتاحات، سبلاً كثيرة للالتفاف على الحقوق، وخير سبيل لاتقاء هذا -في دائرتك الشخصية- حمايتك حقوقك بالحرص على إثباتتها، والتعبير عن هذا صراحة دون مواربة، فالناس تأخذ بسيف الحياء.
الدرس المستفاد:
“الوقت يمضي والتجارب راس مال”، من رأس مال التجارب التي تعلمتها أن أحفظ حقي في رؤاي وأفكاري، وأبثّها منسوبةً لي، أو أبذلها محفوظةً بإثبات نسبتها لي. بنات أفكارنا بناتنا، وفي لغةٍ عند قوم: رأس مالنا، نؤتيها بحفظ أنسابها لنا، وننصب لهذا حدوداً واضحة، . فاحفظ حقك، وادع الله أن يقيك شحّ نفسك، ومن يُوق شُح نفسه فأولئك هم المفلحون.
زاوية:
كنت أحاول أن ألوذ من الأكاديميا بالوسط الثقافي، ثم بدا لي أن هذا من ذاك.
أم هل تُرانا نكلّف الأشياء ضد طباعها؟ لا أدري.
هامش:
لسنا مجتمعات مهنية قديمة، وتاريخياً تحكمنا القيم الاجتماعية (أخلاق العائلة والقبيلة). فإذا تراخت القيم المجتمعية، وانحلّت أيضا المهنية التي تضبط التعاملات، صار المجال سوقاً، لا إلى تقاليد المصنع، ولا إلى عُرى القبيلة.