إنها لَشِرعة السماء، غيّر نفسك تُغيّر التاريخ،
ويقول مفهوم (تأثير الفراشة) أن تغييراً بسيطاً في الظروف الأولية له آثار هائلة على المدى الطويل.
فهل يمكن لتغييرات أولية تُحدِثها في نفسك أولاً وبنفسك أن تغير التاريخ؟
لماذا أكتب هذه التدوينة؟
لأن الواحد منا أمام ما يشهده في العالم من أحداث وأهوال محدود بطاقته وإمكاناته بما هو فرد، وهذا الذي يجري في العالم يتطاول إلى مسامعك كل ساعة، وينتصب أمام ناظريك وبين يديك، يوحي إليك ألا شيء بالإمكان، أو يسائلك عن الجدوى، وهذا المعنى إن اعتراك يفتّ عزمك، ثم يضيّع زهرة أيامك، أو يفتنك عن واجبك الفردي؛ تُضيِّعه.
ثم إن التغيير الذي تجريه في نفسك إنما يستديمه عندك شعورك بوجود أثر له يمتد -على الأرض وإلى السماء-، فالعامل حين يغرس فسائله أو يمد معاوله إنما يفعل ذلك لأجل مكانٍ لِما تُحدِثه يده في هذا العالم.
فهل تُحدِث التغييرات، التي نعملها في أنفسنا، أثراً في العالم؟
عليك أولاً أن تعلم أنك محدود بطاقتك وإمكانيتك فرداً، ودائرة وسعك تلك هي مناط تكليفك، أي أن هذا يدل على أن المطلوب منك إنما هو موقفك الشخصي، وعملك الفردي. فما الذي يمكن أن تفعله في هذه الدائرة؟ ثم يكون له أثر ممتد ومتطاول إن شاء الله، مرهون بالمداومة عليه، لأن الأثر إنما يحدث بالاطراد في الممارسة، الثبات عليها.
- أول إمكانياتك: وقتك، ومعظم الوقت دقائقه:
من الدقائق تتكون الساعات، والأيام، ثم الزمن بمجمله، وفي ضياعها ضياع الوقت، وفي حفظها استثمار العمر، وبهذا يكون حفظ الوقت واستثماره، أول ما يكون، وأكثر ما يكون، بإجراءات متناهية الصغر، تُحفظ بها دقائق الأوقات، وشرط إثمارها المداومة عليها. وفي قيمة الوقت، ووسائل ضبط الأوراد فيه، واستراتيجيات حفظه مواد كثيرة نافعة، غير أني أردت أن أورِد بعض الإلماحات في هذا.
اليوم يبدأ بأوله:يضبط يومك بواكيره، صلاة الفجر وأذكاره وطرة النور الأولى، محافظتك عليها تضبط لك يومك، أكثر مما تفعله ساعات العمل أو غيرها. ثم تنتظم بعدها أعمال اليوم على الأوقات. لا شيء غير هذا يفعل مثل أثره.
أذكر أني زرت بيتاً ريفياً في إنجلترا، مبنيّ في القرن الثامن عشر، لابنتي عم أو خالة (لا أعرف، لا تكشف لغتهم عن هذا)، يبدو لك البيت دائرياً، وإذا مداره من 16 ضلعاً، في جهاته نوافذ منها تطل على الغرف، والغرف مقسمة مواقعها بحسب ووظائفها في مهمات اليوم وأشغاله، يبدأ اليوم من الغرفة التي تطل من نافذتها شمس الصبح، ثم الغرفة التي تجاورها، تطل منها شمس الضحى، ثم غرفة العصر فيها طاولة تنعكس عليها شمسه، وكل غرفة مهيأة لمهام الوقت، والترويح جزء من مهام الوقت، لا شك.
اهتدى الإنسان إلى تقسيم الوقت على وظائفه منذ عرف شمسه، أرأيت -مثلاً- كبار السن عندك، يوم أحدهم منتظم على وظائفه، أولها صلاته، وأوراد أذكاره، تنظم له يومه، ويُشغل بقية الأوقات بعادات حلوة، لا يفرط بشيء منها، مهما بدت بسيطة عندك، يستقيم له بها يومه. وفي مثل هذه العادات والمداومة عليها بركة على الروح والوقت وعافية للجسم النفس والجسم.
لا سبيل إلى حفظ الوقت غير ضبطه بـ(روتين) ينتظم فيه، يكون هذا بضبط بُكوره، ثم يستقيم لك الأمر مع المداومة، فاجعل لك شيئاً تحبه في أول يومك، يستحثك على النهوض: كوب قهوة سوداء، مقطع يحفزّك، شعاع نور إذا دخل الدار نفض عنك ثَقَلة الكسل، موعد مع صديق يكابد فجره مثلك. نؤتي النفس شيئاً مما تحب، حتى تستقيم على عادات الخير، مثل خيل جموح.
- السماع، سماعة بلا إنترنت
كان -مما علّمونا- أن بعض العلماء إذا أراد أن يدخل الخلاء -أجلكم الله- أمر خادمه أو ابنه أن يقرأ القرآن ليسمعه فلا يضيع عليه من وقته شيء، والأوقات “الضائعة” في المشاوير والطرقات والسير ومهمات اليد لو تأملت لوجدت أن بالك يشغلك فيها، إن لم تشغله بشيء، وإن شغلته خفّ عليك ثقل العمل أو أسرعت فيه. في هذه الأوقات التي تضيع متسع للسماع؛ المواد متاحة، وفي السماع معرفةً “تُدرك من كل الجهات” إذا انشغلت من جهة النظر -كما في تعبير الفقهاء.
واختر مواد سمعك مما يفيدك، غير أني أقترح عليك أن تجعلها غير مربوطة بالشبكة، يعتقك هذا من استنزاف الحضور الذي فيه هدر للوقت والطاقة -وليس هذا مقام بيانه. تتيح بعض التطبيقات كتب مسموعة، لا تتطلب حضوراً على الشبكة، تتوفر كثير من الدروس أيضاً، اختر ما يهمك منها، وإذا بدأت شيئاً تقصَّد تمامه، يعينك على هذا وجود كتب أو محاضرات في موضوعات تهمك المعرفة فيها أو تستهوي نظرك. ستكون لك حلقة أو مجلس تحضره من جهة السماع، أو رفّ مكتبة تختمه وأنت لم تجلس على كرسي، وسيكون من منة هذا أنه شغلك عن هم كثير من الانتظار أو الزحام، أو هم يشغل اليد، والتخفف من الهم يورث وِسعاً في الهمة، ثم أرأيت إن أنت تحصّل لك متسع في وقتك من (وفّرته بتنظيمك مشاغلك)، وراكمتَ المعرفة بالسماء، هل يتحصل لك مكان لشيء تًحدثه في هذا العالم؟
- عن موقفك مما يحدث في العالم
يأمرك الدين أن يكون لك موقف تتخذه من كل سوء في العالم تناهى إليك:” من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان”. ]رواه مسلم [غير أن الأمر في الحديث يرد بلفظ: (التغيير): “فليغيّره”، والفعل فيه مرتب على حسب الإمكان: “بيده، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه“، فهل يحدث التغيير بموقف في القلب؟ يقول لك الحديث ذلك، وفي هذا إشارة إلى الإنكار بالقلب هي درجةٌ مؤدّاها أن تُحرس المعايير، وفي حراسة المعايير -في نفوس الناس أولاً- ما يؤدي إلى انتظامها في معاشهم، في انتظامها -لو تأملت- ما يتحقق به التغيير الذي يتحقق أول ما يتحقق فالقلب وبه.
- هل تُغيّر اللغة الواقع؟
إنكار المنكر فعلٌ كلاميّ، وإفشاء السلام، والأمر بالمعروف، كلها أفعال كلامية كذلك. يموت الباطل في النفوس بإهمال ذكر، وتحيا فضيلة بلسان يتداولها. توجد الأشياء -بصورةٍ ما- في اللغة أولاً، تفعل اللغة شيئاً في الواقع، إذ هي آلة الفكر ووعاؤه، ومادة الصلة بين الناس، وأداة التعاقد بينهم.
كم تغيير يمكن أن تُحدثه اللغة فيك، في واقعك، ثم في صلتك بمن حولك، في المحيط الذي تتناهى إليه حواسك، ثم مثل ذلك في محيط لا تراه ولا تسمع به.
تأمل، كم مرة ورد لفظ (أحدكم) في أحاديث النبي-صلى الله عليه وسلم-[1]. يؤمر المسلم منفرداً، لأن الأمة في مجموعها إنما هي أفراد، وإن بدا لك الأمر كأنه فتاتٌ غير مجموع، فقد اقتضت طبائع الأشياء أن الأمور تتغير، أول ما تتغير، وأكثر ما تتغير بالوِحدة الأولية، بحركة أولية تطّرد.
ومما هو مشاهَد أن الأحداث الكبرى يكون من شأنها أنها تُحدث تغييراً في الأفراد بما هم أفراد، أنت ترى اليوم هذا في نفسك، وتراه في الشاشات، وفي أفراد الناس، وبقاء الأثر في الجموع مُرتَهن بانتظامه في الأفراد منهم.
أما عنك: فإن أنت حفظت أوقاتك، وتعلمت فيها ما ينفعك، واتخذت موقفاً حاضراً بقلبك مما يجري في هذا العالم، تمثّلته بسلوكك وخياراتك الشخصية، ودعوت له خاصتك من رفاقك، وجعلته حاضراً في بيتك، نصبتَ ذلك معياراً، وجعلته ممارسةً حيّة، فإن موقعك من تغيير التاريخ ما تُحدثه في نفسك، هو محل اختبارك؛ اختياراتك بما أنت فرد، وبينك وبين نفسك ألف عذر ألا تغيرها على اعتبار أنها لن تُغيّر في العالم.
زاوية:
تتغير الأشياء بإجراءات متناهية الصغر تداوم عليها حتى تصير لك عادات، مثل: أن تُغلق هاتفك قبل النوم، أو تنهض إلى السنة بعد التسليم من الفرض دون أن تتيح فراغاً تراودك فيه نفسك أو يشغلك الشيطان، تغيّر مكانك ساعة الغضب فوراً، تقوم من مكانك ساعة الثَقَلة والهم قبل أن تركن إلى الكآبة.
أذكر أني في أعوام الدراسة في الغربة كنت أستعجل شطب المربعات البيضاء في الرزنامة على جدار المكتب، أستبق إلى انقضاء يوم الامتحان، أو حلول موعد السفر، أو ظهور نتيجة تقرير، ثم في فصل التخرج مرّ يوم ميلادي ففوجئت، وتساءلت حقاً: متى انقضى هذا الزمن، وإذا المربعات البيضاء التي كنت أستعجلها قد حُسِبت من عمري : ). [2]
يقضي همّك على أيامك، فاحفظ أيامك من همومك، بأن تنشغل في همومك عن همومك.هوامش:
[1] حصرتها مرة فكانت -فيما أذكر- تزيد عن مئة حديث في (البخاري) .
ووردني هذا السؤال أول مرة في محاضرة للحبيب علي الجفري أقيمت في الكويت عام 2009 تقريباً.
[2] كنت أقول لأمي، على الهاتف، أن العمر الذي لا أقضيه معكم لا يحسب من عمري، وصدّقتُ هذا : )