ليست هذه تدوينة في مديح السفر، ولا عن تجارب الترحال، وليس هذا نَص في وصف الرحلة، وإنما هي إلماحات بسيطة لكِ، إذا كنتِ قد حُبِّب إليك طلب المعرفة، ثم كتب الله لك سلوكاً في طريقها، ووهبتِ فوق هذا رغبة في السعي، وخفة من ثقلة القعود.
وهي مهداة كذلك:إلى مَن لم يمنعوا إماء الله مساجد الله
- المروءة في السفر كما في الحضر
أخلاق العفة وترفع النفس عما يعيبها لا تتبدل في السفر، إذ لا تتراخى الآخلاق ببعاد المنزل، ولا تتبدل بتبدل المكان. وهذا يرتبط بتصوراتنا عن الفضائل؛ إذا كانت الفضائل عندك معياراً ضابطاً تُلزِم به طباع نفسك لتصونها بها عن النقص أو العيب.
إذا كتب الله لك فرصة تعلم فاحزمي نياتك، عُديها كما تَعُدّين متاعك، وخير المتاع والرَكوب الاستعانة. ثم تنبّهي إلى أن العلم أو المعارف النافعة ليست مادة للعرض، ولا محتوى لاستجلاب نظر الناظرين، إنما هي بذور يؤتى نباتها في بيئة الظل والتنائي والمكث، وبشيء من التأمل وتقليب النظر، وجمع المتناثر وحسن الربط، تَطيب إذا بُذِرَت في النفس أولاً، ثم يتطاول ظلها وغصنها.
فإذا علمتِ هذا، فاجعلي أول رَكوبك أوراد التعلّم والتعليم، ثم قيّدي ما تسمعين، ولا تستعجلي بثّه إلا بقدر ما يثمر في محاورة نافعة، أو مشاركة مثمرة، أو مجالسة تضيء زوايا النظر. وانفعي الناس بما تستطيعين، بلا عجلة إلى التوسع، ولا سعي إلى التكاثر. يأتي الثمر في زمنه طيباً مباركاً يملأ أعين الناظرين وأكفّ الطالبين، بإذن الله.
- هودج مريح
درجة من تطلّب الراحة في السفر ضرورية لأنها يتحقق بها قدْر من الصون بالاستغناء عن طلب الخدمة، فاجعلي سفرك مريحاً بقدر ما يوفر لك من الخدمة ما تستغنين به عن الحاجة للعون. وابذلي مقابلاً لكل من يخدمك. وقديماً قال أجدادنا -وقد ركبوا الصحراء والبحر-: “لا يخدم بخيل”، اجعلي حاضراً في جيبك نقداً مصروفاً بأثمان مناسبة، وراعي عُرف المكان في البذل.
ولا تخرموا سعي أحد أراد أن يعين امرأة، لئلا يتراخى المعروف في الناس أو يتلاشى، فإذا أفسح لك أحد مكانه، أو قدّمك في دوره، أو أراد أن يرفع عنك متاعك فاقبلي ذلك واشكريه.
إذا تطلبتِ في السفر طلب العلم والمعارف، فإن عليك أن تقدميه على حاجاتك الأخرى وتعيدي ترتيب نفقاتك لأجل ذلك. فمجالس التعليم مقدمة على زيارة الأماكن مثلاً، ونُزُل مريح على مقربة من مكان التعلّم أولى من جولة في السوق، وساعة نوم مبكر يستجمع فيها عقلك وجسدك نشاطه للصبح خير من تجوال في استكشاف أماكن جديدة، ليكن “مقامك حيث أقامك”. والتوجه خير من التشتت، ولعلك إذا استكملتِ رزقك فيما وُجِّهتِ له يُفتَح لك في الطريق أرزاقٌ أُخر.
- في حقيبة السفر
احملي حقيبة ذات عجلات مزدوجة، تسير بخفة في الطريق، مصنوعة من بلاستيك ولا تصلح للتمدد، لئلا تُعطبها أيدي عمال شركات الطيران، ولئلا تغريك قابلية الاتساع (ولا تشتري من الأشياء في السفر إلا ما تحتاجينه في سفرك). ضعي ما تحتاجينه من الثياب والأدوات، لكن تذكري أن الماء جارٍ لم يزل، فلا تزاحمي من الملابس ما يُثقل حِملك، فالثياب تُغسل في السفر :). ورتبي ثيابك:
- اجعلي مع كل لبسة قِطعها كاملة (ربطة الحجاب، أكمام إضافية، قميص تحت القميص، أو بطانة، ونحوها)، اجعليها -مجتمعةً- في طيّة واحدة، ولفّيها بـ(سَير) مطاط.
- خذي حذاءين رياضة، أحدهما -على الأقل- لا يظهر فيه أثر الدَنَس (لا يسهل غسل الأحذية غالباً- والحذاء الأبيض يُلبَس يوماً واحداً ثم لا يعود أبيض).
- اجعلي أدواتك مصنفة في حاويات أو “منظّمات” حيث يسهل الوصول إليها، بحسب نوع الحاجة. لا تجعلي في الحقيبة شيئاً مطروحاً بغير نظام.
- تأهبي للنسيان، واجعلي ما تحملينه في كفك أو على كتفك مصمَماً على تَحَسُّبٍ من غفلة الطريق. عالقاً في ظهرك أو ممدوداً على جهة من الكتف لئلا يَسهل وضعه ونسيانه. واجعلي حقيبة اليد فيها جيوب توضع فيها الأغراض مقسّمة. لا تحملي محفظة واجعلي مالك محفوظاً في أحد الجيوب.
- ضعي في مكان بارز في حقائبك ورقة مكتوب عليها رقم هاتفك المفتوح، حتى إذا وُجِدت الحقيبة سَهُل الوصول لصاحبها.
- في توثيق الرحلة
قيّدي ملاحظاتك في قاعة الدرس، اجعلي لذلك دفتراً منظّما. ودوني خواطرك في الرحلة. واحفظي الذكريات بالصور، لا تضيع اللحظة إذا حبسناها وإنما تبقى، ذاكرة للأيام وزاداً للحركة، واستدامة لساعة البهجة (قرأتُ مرة دراسة عن أن الصور إذا عُدت إليها فإن ذاكرتك تحمل لها من الشعور الإيجابي أكثر مما كان في لحظة وقوعها). اكتبي خواطرك ولا تَتعجلي في بثّها في الوسائل.
- استثمار الطريق
يعلمك الترحال فيما يعلمك ثمن الوقت واستثمار الطريق، احملي معك مهمات مريحة تحفز عقلك، وتشغل أوقات الانتظار دون إثقال: استكمال حلقات سلسلة مسموعة، أو قراءة رواية، أو تحرير نص، أو ترتيب فكرة أو مادة.
- مآذن بعيدة
صلي الجمعة، إن وافقتك، في مسجد معروف في المدينة.
- هاتف لا ينقطع
واصلي أهلك وأحبابك، قسّميهم على الأيام، لكلٍ وقتٌ يناسبه، وحديث يستهويه. كلمي الصغار، واجعلي حديثك لكلٍ حسب اهتمامه، وانقلي لهم من المشاهد حيةً أو مسجلةً ما يحظى باهتمامهم. شاركيهم، ففي السفر كآبة لولا صوت الأهل والصديقات.
ولولا تراخي المسافات عن البعد، بوسائل الاتصال، ما ودّع حريصٌ للطريق مسافِرَهُ.
ساحة خلفية:
أملّّ في السفر، ولا أختار قطعه منفردةً، وجلسة شاي على بساط في الديرة تنعكس عليه شمس العصر خير من بساط الريح عندي. أو جلسة في صالة نكمل فيها أطراف الأحاديث المقطعة، أكثر بركة على روحي من أعوام الغربة.
تصيبني ثقلة في المطارات أخففها بالذكر، ويخفف من السفر لطفُ الناس في الطريق، وأحب أن أرويه:
سائق الباص الذي ركن الباص بما حمل، على جانب الطريق على غير موقف الباص، لينزل ويقودني إلى طريق مختصرة إلى المكان الذي أريد. الرجل الذي وقَفَ يحرس صحن فطوري على طاولة مقهى خارجية، وأرسل صديقه لينبهني وأنا في داخل المقهى، أن طائر النورس يهدد طعامي، أو السيدة التي أبت أن أستدير فيطول علي الطريق، ورفعت معي متاعي حتى وصلت وجهتي، لطف سائقي الأجرة: “تاكسي المشاوير” الذي لا ينتهي، والرجل الذي نزل من دراجته عند مدخل المحطة، تركها عند صديقه، ليسحب حقيبتي، دونما سؤال. فتاة تدلني على الطريق تسايرني. وعاملة فندق عربي تسلمني مفتاح الغرفة أول النهار، قبل سبع ساعات من موعد الدخول.
ولمواقف ألطاف الناس بقايا، لا تنتهي.