
على منضدتي … عملاتٌ نقدية لثلاثة بلدان مختلفة … كومةٌ معدنية تنقش ضجيج المسافات … ودّعت إكستر … في وقت كانت تتودد فيه شمسها … تغري بالبقاء … حتى النهر كاد يعدني أن يكون هادئاً وديعاً … يصلح أن أَفرش على ضفافه دفاتري …

كانت المدينة الصغيرة الهادئة تتأنق … استعداداً لـ “المونديال” … قَدْر ما يَسَعُ مدينة متنائية عن الصخب أن تتأنق لمناسبة صاخبة …!
وسائق التاكسي يعدد فعاليات الاحتفال في المدينة هذا الصيف …
– “لكني عائدة للوطن ” …!
– “تشتاقين للوطن؟”
كيف لا نشتاق الوطن ؟ …
كُلُّ بقعة تَصْلُح أن تكون وطناً …!
فـ حيثما توجد الفكرة … فثمة وطن …
…………………………………………..
غرفة الصلاة في مطار (هيثرو) …
الأرض … تتلَمّسُ طريق السماء …!
وعُدتُ للوطن … عَوْداً عابراً … قَدْر أن أتَنَشَّق غباره … وأُفْرِغ حقيبة السفر … ثم أملؤها … وأنظر إليه نظرة عابرة … تزيد الاشتياق … وألملم اوراقي … وأُدَوّن في الدفتر الوردي مهماتي … وأحزم حقيبتي …
هنا القاهرة … هنا الإنسان والميدان …! هنا “النكتة” بياناً ثوريا … والخبز معزوفة عَرَق …! هنا الأذان والأغنية … وِرداً فَجريّا تترنم به الطرقات …

هنا ليالٍ لا تنام … وصباحاتٌ لا تتعب … هنا الحُبٌ يعرف طريقه جيداً … لكل القلوب …!

عروسٌ هذه ؟ أَم مدينةٌ تتمخض ؟! هكذا استقبلني النيل في أول ليلةٍ أجاوره فيها … لم يسمح لي بالنوم …! كان يرقص على أنغام أم كلثوم … وعلى شرفته … يتداخل صوت الأذان … ودوي صافرات النجدة … وفرقعات الألعاب النارية … وعَزْف المراكب …! وحدها مصر … تتقن أن تحتضن المتناقضات … بأمومة حانية … أَوَليست أُم الدنيا …! هي مصر … بإنسانها وألوانها … مدينة تُحب الدنيا … وتحبها الدنيا …! تحب الأرزاق … والأشواق … يحبها التعب والصخب …

والميدان … غناءٌ حدّ النزف … وإصرارٌ حد اليقين …! هكذا كان الميدان … في جمعة “القَسَم”…

اختار مقعداً مشرفاً على المشهد برُمِته … : )

كانت الأجواء روحانية جداً … هل “التحرر إلا من أمر الروح …! وعلى المنصة … يقف شاب جريح … وسيدة مسيحية … وقياديّ إخوانيّ سابق استقال من الحزب وانبرى يدعم أشرس منافسيه … وليبراليون … وشيوخ أزهريون … ويساريون … وأطفالٌ وشيوخ … وشبابٌ ونساء … وحلمٌ وعزمٌ … وليلٌ يعصر نور الفجر … وغَدٌ يبدأ من اليوم …! … كان شيئاً أدركتُ أني لن أستطيع أن أحكيه … كانت لحظاتٌ تستحق أن يقف لها الزمن …!