لستَ روما، لا تجعل الطرق كلها تؤدي إليك.
في ٢٠١٢ تقريباً، قرأت في تعريف إحدى الفتيات على صفحتها في تويتر عبارة: “أبلّك احتياط”. استلطفتُ هذه العبارة، شعرتُ أنها اعتذار مبطن لطيف، لخطة يتبناها المرء وسط هذا الموج البشري الهائل، طريقة فرملة، أو لوحة تحكم. نعم، هذا هو التعبير الأدقّ: لوحة تحكّم.
في هذا الزحام، من أبسط حقوقك، وواجباتك، أن تحمي مساحاتك، وأن تحرس حدودك، أن تستخدم لوحة تحكّم موبايلك.
شخصياً، أرى أن مسؤوليتي أن أخفف من أعباء الحياة ومن أثقالها على وقتي وعقلي ومشاعري، وهذي المسؤلية تنعكس أكثر ما تنعكس في علاقتك بجهازك.
أنا لا أحمل (مجموعات دردشة) في موبايلي، لأني ببساطةٍ “ساذجةٍ”، أرى أن ما أريدهُ هو الصيغة الخام من التواصل الإنساني؛ اجتماعات الأحبة ولقاءات الأصدقاء أماكنها، عندي، طاولة طعام وأرائك غرفة، أوطاولات المقاهي، لا شاشة موبايل تزدحم فيها تنبيهات ونصوص مقطّعة لا سبيل إلى اكتمالها.
أنا لا أحمّل تطبيقات عمل في هاتفي، لأن العمل الذي كان يصحو مع الشمس ثم ينام، صار يتلقاك في جّل أوقاتك أو كلّها، بلا طرقة بابٍ، بلا موعد انصراف.
كثيرٌ جداً أن تحمل أشغالك كلها بين يديك، صفوفك، وأنديتك، وكتبك. يخرق هذا لحظة العطاء المقدسة، إذ يستهلكك استهلاكاً فارغاً مُسبقاً.
لغة الحب الأولى عندي هي الأحاديث المطولة، تتلقاها الوجوه وتشير بها الأيادي أو تصافحها. لغة الخصام الأولى عندي هي ذاتها لغة التراضي: وجهان، أربعة أذرع، نبرة متدفقة.
تقول (عاج) أن “الإنسان ابتكر اللغة ذاتَ فراقٍ، ونسيها ذات وصل”، وأني لأظنه ابتكر الكتابة ونقل الصوت ذات فراق .. الكتابة هي أخت الفراق، وإنما خُلقت اللغة للمشافهة، وكانت في البدء المشافهة.
وبهذا القدر من الخصوصية والحساسية تجاه التواصل والمسافات، أتعامل مع (البلوك) كأداة لحجب الصوت، لا لحجب قائله. ليس البلوك شتيمة تُلقيها على بُعد لتلتفت إلى الجهة الأخرى من الطريق، ليست إيصاد باب، (البلوك) حجب للصوت، إلى أن تتهيأ له الأذن.
هل يعجب أحد منك إذا أوصدت بابك لتنام، أو إذا اعتكفت في المكتب لتتم عملاً، أو إذا غيّرت القناة عن فيلم تفضّل أن تحضره سينما؟ حسناً، هل لأحدٍ أن يلومك على انصرافك عن كلام لا يليق، أو ضجيج لا ينفع، أو أذى متوجه إليك. أبسط مساحات حريتك، وأدناها -تقريباً- هو ما تراه في جهازك، الذي تطلّ به على وعثاء العالم ثم لا تفعل شيئاً.
أنا أرى (البلوك) أداة تحكَم في درجة الصوت، والنبرة التي تريد أن تسمعها، هذي الأصوات لو تأملت لها طريقٌ سالك على عِرقٍ في ذاتك، وعِرقٍ في عقلك، يشكّل نظرتك لعلاقاتك، ويصيغ مشاعرك، يومك، وعمرك. تخيّر من الزحام ما تطلّ به على عقلك وروحك، واستبِقْ صيانة الطرق المؤدية إليها، لستَ روما، أنت من لحمٍ ودم، ولن ينفعك أن تكون طريقاً مشرعة، أو أن تؤدي الطرق كلها إليك.
1 تعليق
دلال
الله .. من ألطف ماقرأت اليوم