القرآن يقول: “الغافلات المؤمنات”
وأذكر أني شعرتُ حيناً أن “القرآن مو بس أعذَرنا، القرآن عبّر عن سايكولوجيتنا!”. وإذا هو وصفٌ وَصفت به عائشة أم المؤمنين حالها، يوم الإفك، فصدّقه القرآن: قالت:
رُميت وأنا غافلة وإنما بلغني بعد ذلك ..
يا رب الغفلة والالتفات، والسرائر النقية!
فما تلك (الغفلة) إذاً، وهل هي وصف خاص بالمؤمنات؟
على اختلافٍ في أقوال المفسرين، جعل بعضهم الغفلة وصفاً للمؤمنين عامة، قال الزمخشري:
السليمات الصدور، النقيات القلوب، اللاتي ليس فيهن دهاء، ولا مكر، لأنهنّ لم يجربن الأمور ولم يرزن الأحوال، فلا يفطنّ لما تفطن له المجربات العرافات. […] وكذلك البُلْه من الرجال في قوله عليه الصلاة والسلام ” أكثر أهل الجنة البُلْه“.
وجعله بعضهم غفلة المؤمنات عن السوء والفواحش[2]، لا تخطر لهن ببال[3].
وعند ابن عاشور (1393هـ): “الغافلات: عن قول الناس فيهن”. فهنَّ غافلات عن الظنون والأفهام، وتلك غفلة مركبة: غفلة عن إرادة السوء في النفس المؤمنة، ثم غفلة عن ظنون الظانين وتأويلاتهم ونظراتهم وتفسيراتهم، ثم تعريضهم أو تلميحاهم[4].
على أن تلك الغفلة -وإن كانت ستاراً وحجاباً للمؤمنة عن السوء إذ لا يخطر بقلبها خاطر السوء- فهو حجاب يحجب المؤمنة عن الظنون، ولا يحجب الظنون عنها، ذلك أن تلك هي طبائع الأشياء: فآنية القلوب والعقول تنضح، كلٌّ على قدر ما فيها من الفهم. وقد يقال لبعض المؤمنات أو بعض المؤمنين أن فيه جهلاً بطبع الحياة أو طبائع الأشياء إذا ما التفتت نفسه عن السوء أو خَلُص منه طبعه، فهل عليك أن تحمل أعباء الظنون على رأسك ليصحّ لك فهم هذه الحياة؟ أم عليك أن تحمل معاييرك مهما لفتتك عن ظنون الناس وآرائهم؟
ولست أرى غفلة المؤمنات إلا عن السوء دون غيره، ذلك أنك قد تجد إحداهن فطِنة يَقِظة ألمعية، غير أنها غافلة عن السوء، ليس في بالها شيء منه.[5]
التغافل خُلُقاً
يربيك أهل المكارم على التغافل خُلُقاً، إذ يتمثلونه معك: يتغافلون عنك إعذاراً وإعراضاً، حتى تقوّم زلتك، أو تقوم من عثرتك، ثم لفرط ما كَسَوك من التغافل أو رأيته فيهم تتطبع به، أو تحاول. فكأن النص الديني حين وصف المؤمنين بالغفلة أراد منهم أن يتطبعوا بها حتى لا تدور بينهم خواطر سوء الظن -في أفعال بعضهم مطلقاً-.
يتغافل المؤمن عن الزلل والخلل في الناس تخلقاً، حتى يظنه الناس غافلاً، والتغافل لو رأيت لوجدته نوعاً من الفطنه، لأنك تتيقظ إلى ما عليك أن تصد عنه من زلة الصديق أو ضعف الضعيف، أو بَشريات الناس في مخالطاتهم، يفعل ذلك المؤمنون إعراضاً وحياءً، وإماتةً للشر وسدذا لباب الفرقة، وبسطةً في النفس وفي الخُلق، وصيانة للمجتمع أو تنزيها أن تَدُول نوازع الشر.
التغافل لاستدامة العلاقات
تتغافل المرأة تطبعاً تكتسبه من التنشئة، ومن أدوارها في الحياة، ومراداتها منها، أو تتغافل فطنةً وحكمة وتدبيراً ليكون لها ما تريد. أذكر أني حضرت محاضرة (في برنامج دبلوم في منهج في الإرشاد النفسي في إنجلترا)، ذُكرت فيه إحصائية تقول إن السبب الأول للصعوبات النفسية عند الرجال كان وجود اختلال في (المكانة)[6]، والسبب الأول عند النساء وجود مشكلة في (العلاقات). فإذا كان الرجل يخرج لمواجهة الحياة بقوسه ورمحه، يكابدها ليضع لنفسه فيها موضعاً أو ينتزع منها شيئاً، فإن قدْراً من احتياجات النساء ومراداتهن الأَولى يتمثل في استقامة العلاقات لهن، وإذا كانوا يقولون إن البيوت [كثير منها] قائمة على صبر النساء، فمن ضرورات الصبر -في سياق إقامة العلاقات لمن أرادت استدامتها وحفظها- : التغافل، ويكون هذا عن دُربة وفطنة ووعي.[7] (ولا أقول إن التغافل أمر مختص بالنساء أو متعلق بهن، لم يقل النص الديني ذلك، وإنما هو مِن حُسن الخُلق مطلقاً، لكن-بصورة ما-يُلاحظ أن النساء أقدَرُ على استثماره).
خلاصة:
تغفل المؤمنة طبعاً، غفلة حقيقة مركبة: غفلة عن خاطر السوء نفسه، وعن ما يُقال فيها وما يُفهم من تصرفاتها تأويلاً وظنّا.
ويتغافل المؤمنون تطبعاً: إقالةً للعثرات، وسداً لأبواب الشرور، أو تتغافل ترميماً لثغرات في العلاقات، وحسن تدبير، أواستدامة لها.
ملمح تربوي:
تُربي الغفلة في نفوس الغافلات بيوتٌ تُهمل ذكر السوء، جَدّاً وهزلاً، تصريحاً وتعريضاً، وتصان البنت عن السوء بتربيتها على التحفظ بوصفه فضيلة لا (آلية نجاة من السيئين)، فتترفع البنت عن غير توقُّعٍ للسوء في الناس!، ترفّعاً يحميها من السوء وتُحفظ معه في نفسها فضائلها الأخرى.
هوامش:
[1] الرازي
[2] الفيروزأبادي، البغوي، السمرقندي
[3] الألوسي
[4] وفي الشواهد كثير على هذه الغفلة (المركبة)، منه أن إحداهن قد تقرأ نصاً فيه ما فيه، ثم لا تفطن به، وإن عُرِّض بعدم فهمها فلا تفهم التعريض أيضاً. فانظر إلى هذا الحجاب عن الفهم، ثم انظر إلى فطنتها في مواضع أُخر.
ثم انظر كم تهتك فضاءات الانكشاف من سُتر الغفلة عن الأفهام.
[5] البَلَه: الغفلة عن الشر، في (لسان العرب).
[6] المكانة: الوضع الاجتماعي، المتحصل -في قَدْرٍ كبير منه- من الكسب بمعناه المهني أوالاقتصادي بطبيعة الأحوال وعلى الأغلب.
[7] ليس التغافل فعل سلبٍ دائماً، فليس هو دائماً محض التفات وانصراف، وكثيراً ما يكون من الحيل في العلاقات، أرأيت أحدهم يتغافل عن ثغرة ليُتمم بناءه من جهات أُخر؟ يُشاهد هذا وتحكيه المرويات.