Skip to content Skip to sidebar Skip to footer

(سِيماءُ الربيع القادم)

جامع الزيتونة بتونس عام 1890 الكاتب: عمران عماري “ربيعنا العربي لم يزهر” قالها وقد ابتلت منه المآقي، ورددها بمرارة أحسست بها في حلقي عن حلقه، كانت ملامح خيبة الأمل على وجهه أقسى من عصي الأمن تنزل على الثائرين، وصوته المبحوح أشد من صوت القاشوش يصيح “جنة جنة جنة… “. فرّقت جملته هذه بين الجفن والوسن، ولم يغمض لي جفن ليلتها أتساءل: هل من ربيع لأمتي؟ فأجيب نفسي أن نعم، فسنن الله في الكون ثابتة، ولا بد من ربيع تزهر فيه النفوس المطمئنة إلى وعد ربها، وتنجلي فيه ظلمات الخريف، وهو قريب قريب، فما سيماء الربيع القادم؟ وكيف الوصول إليه؟ كانت الأندلس عليلة، وأجمعت الامة على أنها في مرض الموت، في جوف تلك الليلة، جلس يحيى بن إبراهيم إلى أبي عمران الفاسي، شيخ الإسلام في شمال إفريقية في زمانه، يناجيه أن يبعث معه أحد صحابته إلى جنوب المغرب الأقصى، يشحذ الهمم، ويزكي النفوس، ويعلم الدروس. اختار له أبو عمران من كنانته “عبد الله بن ياسين“، فارتحل معه إلى صحراء قاحلة، من الزرع ومن الرجال، فكان لها ربيعها القادم، ومن ثلة من الرجال الملثمين، وحّد أغلب أفريقيا تحت راية أمة واحدة، فأسس دولة المرابطين التي أعادت للاندلس مجدها وربيعها، إلى حين. في ليلة أخرى كان سعيد النورسي، الذي لم ترضعه أمه إلا على وضوء، ولم تدندن في أذنه إلا برسائل النور من ذكر وقرآن، يضرب في الأرض بين جبال الأناضول ووديانها، يقرأ كل كتاب وقع بين يديه، ويحفظه في قلبه حفظا، حتى وصل ليلتها إلى بلاط السلطان عبد الحميد الثاني، فناجاه بمشروعه الفذ، فأنشأ “مدرسة الزهراء” التي أزهر بها ربيع الاناضول، إلى حين. وفي أعظم ليلة مرت على هذا الجرم الكوني الذي نسميه بالأرض، خشع الكون كله ليسمع أول التراتيل النورانية تنزل على قلب البشر الرسول “إقرأ”، فقرأ من آيات الله الكونية، وسننه الثابتة التي لا تتبدل، لكنه لم يكتف بالقراءة بل بدأ مهمته العظيمة “وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها”، ومن ثلة من الرجال المؤمنين في أم القرى مكة، شحذ همتهم، وزكى نفوسهم، وعلمهم الكتاب والحكمة، فانطلق بهم يفتح الشرق والغرب، فكان ربيع الأمة الأول، إلى حين. وهكذا ربيعنا القادم، يبدأ برجل او رجلين، في قرية او مدينة، ثم بثلة من الرجال، يسمعون النداء “إقرأ”، ويُطهر قلوبهم من اليأس في الربيع القادم، ويزكيهم من حب السلطة والرياء والجبن والبخل، ويعلمهم الكتاب والحكمة، ثم ينطلق به ليزهر الربيع في قلب كل نفس تواقة. لا مجال لإنتظار ربيع يأتيك من خارج نفسك، الربيع أنت، فتزود وانطلق، ودع اليأس فإنه قاتل الأمة ومحبطها، وهو أول مراتب الكفر، وجانب الوهن، فإنه جاعل الأمة غثاء، وتعالى بنفسك عن سفاسف الأمور، ونزه نفسك عن صغارها لتصل إلى كبارها. “إقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق”، وانطلق، يصحبك في الطريق قول بديع الزمان النورسي: “ضياء القلب هو العلوم الدينية ونور العقل هو العلوم الحديثة فبامتزاجهما تتجلى الحقيقة فتتربى همة الطالب وتعلو بكلا الجناحين وبافتراقهما يتولد التعصب في الأولى والحيل والشبهات في الثانية”.

13 Comments

  • محمد ملوك
    Posted 15 سبتمبر, 2012 at 7:37 م

    وضعت الأصبع على الداء بارك الله فيك
    ما أجمل ما قلت ” لا مجال لإنتظار ربيع يأتيك من خارج نفسك، الربيع أنت، فتزود وانطلق، ودع اليأس فإنه قاتل الأمة ومحبطه، وهو أول مراتب الكفر، وجانب الوهن، فإنه جاعل الأمة غثاء، وتعالى بنفسك عن سفاسف الأمور، ونزه نفسك عن صغارها لتصل إلى كبارها. ”
    تحيتي ومودتي

    • عمران عماري
      Posted 16 سبتمبر, 2012 at 12:16 م

      أهلا بك في هذا الرحاب محمد، هذا غيض من فيضكم أخي وأستاذي محمد

  • ياسين باعسو
    Posted 15 سبتمبر, 2012 at 7:57 م

    رائع أخي عمران لديك مقالات مبهرة ، تحياتي ووفقك الله لكل خير ان شاء الله :)

    • عمران عماري
      Posted 16 سبتمبر, 2012 at 12:17 م

      أهلا ياسين، من لطفك أخي، وفيكم الأمل أنتم الجيل الجديد المفكر

  • حصة
    Posted 15 سبتمبر, 2012 at 8:16 م

    كلماتٌ مُلْهِمةٌ … حَدّ الثورة على الذات …!
    واثقة … حدّ اليقين …

    شكراً أستاذ عمران …
    مشاركتكم تجعل “غمامة” كثيفة أكثر …!

    • عمران عماري
      Posted 16 سبتمبر, 2012 at 12:28 م

      أختي حصة، بل لك الشكر على استضافة حرفي في خير دار، وإن كان فيه من خير فإنما هو من الله ومن حسن الدار وكرم المضيف.

  • أبو محمد السنان
    Posted 15 سبتمبر, 2012 at 9:12 م

    مقال عظيم وأسلوب راقٍ، وفيه من النور مايضيء للأمة طريقها.
    بارك الله فيك وإلى المزيد

    • عمران عماري
      Posted 16 سبتمبر, 2012 at 12:25 م

      أهلا سيدي أبا محمد، من جيلكم نهلنا هذه القطرة من امل في ربيع قادم، وما كتابات جيلنا بعدكم إلا كقول الشاعر:
      أسير خلف ركاب القوم ذا عرج***مؤملا جبر ما لاقيت من عوج
      فإن ظفرت بهم من بعد ما سبقوا***فكم لرب السما في الناس من فرج
      فرج وإن ظللت بقفـــر الأرض منقطعـا ** فمـا على أعرج في ذاك من حـــرج

      فلكم من هذا المنبر خالص شكرنا ووفائنا لتربيتكم الطيبة، ونبتكم الحسن.

  • من كلماتيً
    Posted 16 سبتمبر, 2012 at 9:04 م

    يشع من حروف هذا المقال : ربيع دائم لأمة الخير … ما دامت نفوس شباب الأمة بهذا التوقد  وهذا الحس … وهذه الهمة الحرة  … 
    وإنما سنة الله الحكيم تتجلى بعض خباياها في دوران الفصول والأيام… فما من خريف وشتاء إلا وربيع بإشراقه يزيحه … وما من ليل إلا وفجرساطع طاهر  يهتكه …. وقدر الأمة أن تمحص دائما … 

  • المهاجر
    Posted 17 سبتمبر, 2012 at 7:06 ص

    سيكون كل واحد منا ربيعا عربيا يؤتي أكله بإذن ربه وبفضل ( كنتم خير أمة ).

  • ام بكر
    Posted 17 سبتمبر, 2012 at 11:13 ص

    راااااااائع …ربيعك هو انت …قال تعالى ( ان الله لايغير مابقوم حتى يغيروا مابانفسهم ) … هذه الحقيقه التي نتجاهلها فنحن من يصنع المارد ومن يربيه .. .ولكن لاباس مازلنا نتعلم كيف تنهض الامم .

  • نوره السعيد
    Posted 17 سبتمبر, 2012 at 6:13 م

    اثارت المقاله شجوني في مقدمتها كما اثارت حماسي في خاتمتها .
    شكراً اخي الفاضل .

  • هادي
    Posted 6 يوليو, 2013 at 9:54 ص

    وفي أعظم ليلة مرت على هذا الجرم الكوني الذي نسميه بالأرض، خشع الكون كله ليسمع أول التراتيل النورانية تنزل على قلب البشر الرسول “إقرأ”،

    من أجمل ما قرأت … سلمت يمناك

أضِف تعليقاً

اشترك في القائمة البريدية، تصلك آخر التدوينات.

Sign Up to Our Newsletter

Be the first to know the latest updates