في حلقة د. خالد الجابر -الأكثر مشاهدةً في بودكاست (بدون ورق)- يقول الطبيب النفسي: “تنتشر عند الناس عبارات أنو أللي مؤذين اتركهم، اشطبهم من حياتك. طيب؛ شطبت واحد، شطبت اثنين، شطبت ثلاثة، (يعدّهم بأصابعه)، تَبتل تشطّب في العالم؟!”
(كتبتُها كتابة صوتية، لأنقل صوته إلى القارئ)
والحلقة مفيدة ولطيفة ، أذكر أني أرسلتها إلى محمد: “شوفها عفية”، (وأحلتُ إلى الدقيقة 04: 32، التي يقول فيها هذه العبارة)، وعلّقت -على سبيل الاستلطاف والمشاكلة-:
“النجديّ، معالجاً نفسياً.”
ومازال محمد يُعيد العبارة عليّ -يناكفني- في كل موقف أًعبّر فيها عن زهد أو تخلٍّ، يقول: “تبتل تشطّب في العالم؟!”
قال الدكتور هذا، في مقطع يتحدث فيه عن الصبر وبناء القوة النفسية، (ووَسَمَه يوتيوب بأنه من أكثر مقاطع الحلقة إعادةً)، وهو يرى أن الخطاب النفسي في مواجهة الأذى الناشئ عن العلاقات من الأولى أن يُوجَه لمن تلقى الأذى: “غَيّر في طريقتك من تعاملك مع الأذى..”.
ولسنا ننازع الدكتور في شيء من رؤاه هذه، -نفع الله به- غير أني جعلت هذا مقدمة لتدوينة أقول فيها : متى يمكن “تشطّب في العالم؟”.
وليست هذه دعوة لـ”التشطيب في العالم” -من أي وجه -لا سمح الله-، غير أنها محاولة للإحالة إلى بعض المعايير.
لا بد أن نقول أن التواصل الإنساني من ضرورات هذه الحياة، وصورة من صور التنعم فيها، وأن العلاقات على مراتب ودرجات، من أعلاها الصداقة، ومن أدناها إلف الغريب للغريب، وفي كلٍّ -من هذه المراتب- خير ومنفعة.
وأن المعارف (الصلات الإنسانية) مكاسب من جهات عدة، تكتمل بها للمرء إنسانيته، ويتحقق له بها منافع مُعتَبرة، مادية ومعنوية، ظاهرة وباطنة، ومما هو مُشاهَد من منافع التواصل أنه بقدر ما يستزيد الإنسان من الصلات تفتح له به أبواب في الحياة، وقد كان بعض الصالحين يعدُّ من مكاسبه أنه ما دخل مجلساً إلا وله فيه إخاً .
ومخالطة الناس -والصبر على أذاهم- معتبر في الشرع، ومندوب إليه، لأن الوصل قلّ أن يأتي إلا ومقرونة به فوائد للروح والنفس، ومنافع في العمل والكسب. غير أن الرغبة في التواصل مع الناس، وتقدير منافعه يجب أن لا يستلِبك من حيث تُفقدك الحاجة للوصل معاييرك، أو يبخسك حقك، فليس عليك دائما أن تمد حبل الوصل أو أن تتمسك بأطرافه. فمتى عليك أن “تشطّب في العالم؟”
- كل وصل منطو على حاجة، ولكل إنسان حاجاته التي تنتظم سلم أولوياته، فما الحاجة المقدمة عندك؟ ما الذي يمثل أولوية في هرم حاجات التواصل عندك؟ معنى الوصل والخلطة والإبقاء على وجود من يشاركك شيئاً أو معنى؟، حاجة التقدير أو الاعتراف؟، العدل في البذل، والمكافأة في العطاء؟
إذا كان -مثلاً- معنى التقدير، أو كان معنى المكافأة في العطاء -أو كان غيرهما- أولى عندك، فقلَّ أن ينفعك الإبقاء على وصلٍ فيه ما يتعارض مع المعنى الذي تريده لنفسك ويحتل مكانة في هرم حاجات التواصل عندك، وستُسلب منافع وصلٍ تتكلف تحمُّله، وهو لا يسدُّك من حاجتك ضرورتك. فأرخ يدك، لا تتمسك بوصلٍ لا يؤدي لك ما تريد، فثمة مَغرمٌ هنا.
- في كل وصل تبادُل منفعة، ويحكم حضور المنفعة استدامة العلاقة، تقوم بالمنافع العلاقات وتدوم، لكن احذر من مراكمة العلاقات على نحو منفعيٍّ دنيويّ، يَتطلب بالعلاقات المنافع المادية (الدنيوية) وحدها، ويسلبها معانيها. فتبادل المنفعة، وإن كان فعلاً دنيوياً، فإنه مشدود إلى المعنى الذي يندبه الشرع ويحث عليه، فاجعل المقاصد الأخروية من السعي في حاجات الناس، وتفريج الكربات، والتعاون على الخير وتيسير الحياة، وحفظ الحقوق، حاضرة في وصلك، سيهذّب حضور المعنى الأخرويّ أخلاق السوق الدنيوية في التعامل، وتصير أخلاق السوق هي الأمانة والسعي في حاجات الناس، والتعاون المثمر القائم على إرادة الخير والعدل، ثم تأتيك هذه المنافع كلها لا مقطوعة ولا ممنوعة.
ثم إن أنت اخترت معانيك التي تشدّ إليها روابطك، فلا أظنه ينفعك وصلٌ ينتهك سُلَّم القيم عندك.
- لا معنى لإبقاء علاقة على رف الاحتياط خوفَ الحاجة -إلا في مخازن السوق-، والإبقاء على العَطب غُرم حتى في دفاتر التاجر. استصلِح الأشياء أو اطوها.
ومِن عَجَبٍ أنّ الزهد في الأشياء مظنّةٌ للاستكثار منها.
زاوية:
نشأت في بيئة تمارس الوصل سليقةً، ترى من حولك يمدّون جسور الخير والنفع، وسد الحاجات وتيسير الأمور، ويحافظون على صِلات قد تكون لغيرهم محدودة بحدود الزمان والمكان؛ فيصل أحدهم جاراً جاوره في الرياض قبل ثلاثين سنة ونيف، وصلاً خفيفاً لا يثقل على الواصل ويحفظ الود، ويبقى ذخراً للأيام.
وهو -إذ يحثك على حفظ الوصل – يسألك عن أصدقاء غربتك: أما زلت تصلهم؟، ثم لا يروق له أنك لست على صلة بهم، ويتمتم: أن هذا ما يبقى من ضجيج الحياة ومن غُبارها.
فأضحك وأقول له -عن صديقة جمعتني بها سنوات الغربة الخمس-: لا، نحن لا نتواصل إلا إذا حدثت مشكلة، إذا انقطعنا فهذا يعني أن كلانا بخير، فإذا عدنا للتواصل فمعنى ذلك أن ثمة شكوى تعود بها إلى صديق قديم: يَخبُر أحزانك، تستشيره أو تشكو له، على بعد ألف ميل، فـ”يواسيك أو يُسْليك، أو يتوجعُ”.
ومات أحدهم في أول الخمسين، فسار في جنازته أُلوف، حتى استدعى بعض المشيّعين صورة جنازة عبدالرحمن السميط -رحمه الله-، أو مشاهد نُفرة الحجيج، وليس هو بذي جاه ولا منصب، غير أن له في كل بقعة إنساناً يعرفه ويستثمر صِلاته ومعارفه في تيسير السُبل للناس.