الهدية عالقةٌ في المحل، وكلمات الإهداء منثورة بين خربشات الدفتر.
دفتر التحضير مطوي في بطن الكتاب، أربع دفات متداخلة، ويبدو القلم -بلا غمد- في زاوية الكتاب، متهيئٌ لاستكمال الكتابة.
وأنصاف أوراق صُفر على اللوح، وقائمة مشاغل، وشطر من بيت مثبت بدبوس في زاوية لوح الرزنامة الأبيض.
باكراً –قبل مطلع هذا الشهر- بدأت بملازمة البيت والالتزام بالتعليمات، لم أخرج، سوى لبيوت عماتي –جاراتنا، إلا مع آلاء صديقتي الطبيبة، وكأنما هذا المشوار قد كُتب ليكون عِوضاً عن جلسات المقاهي كلها، التي ستفوتني في هذه العزلة.
آلاء كانت تجلس قبالتي، ولأن الشمس عاكست عينها اليسرى طويلاً جلست إلى يساري، وأنا مسندة مرفقي إلى ظهر الكرسي، وكفي تحمل ذقني، وهي تحكي لي بوجه ينطق بأني سأوتى أمنياتي على أتمها، مخضّرة وارفة، تعِدُني هذا كأنما هي ساقيةٌ ترعى نبت الأمنيات في القلب، أو كأن حجاباً شفيفاً من الغيب قد كُشف لعينيها.
لم تستبطئ قدومي حين تأخرت عليها، ولم تستعجل قيامنا حين دارت الساعة دورتها الثالثة، كأنها كانت تعرف بأننا سنجفو المقاهي زمناً، وأني أستشفي بوجوه الصديقات.
وصباح عذبٌ آخر مع هندة، يوم اشتريت (دراعة) رمضان، وظل ضميري يؤنبني طويلاً. وأنا هكذا كلما اشتريت غالياً من الثياب، أدخل في دائرة لوم ذاتي لا أنفك عنها، أعدّ في رأسي أكياس الطحين، وأقساط المدارس، ورجفات البرد، وعدد الأجساد الباردة في الخيام.
ولا أدري إن كان ذلك من فضائلي أو أعطاب روحي، أو أن بعض أعطاب روحك فضائلك.
يؤذن المسجد وأنا في سِنةٍ من قيلولة: “هل قال: صلوا في رحالكم؟”.
وأنا منذ أسبوع كلما رُفع أذان أتبعه كظِلّه ..
– “بس في البيت أحسن ..”
– ” أدري بس أنت مريض ..”
– ” السجادة .. خذها معك “
– “انزين تسنن هني .. “
وهو يجيبني وصوت الباب خلفه –خارجاً على عجل-: ” إن شا الله .. إن شا الله ..” ..
“صلوا في رحالكم” ..
ثم يستحيل البيت مصلى، ويطوف عطره في البيت خمساً بعدما كان يهبّ عند موعد كل صلاة، ويُسمع في النهار صوت صلاته في النهار، وقد كان لا يُسمع إلا ليلاً ..
وأذكر (الأب العود) الذي ما كان ليفهم نداء “صلوا في الرحال”.
وقد كان عنده نسخة من مفتاح المسجد ورقم هاتف الإمام –الذي بعمر أحد أحفاده-، وكثيراً ما كان يوقظه إلى الصلاة قبل أن يحين موعدها.
وكان –مرة- معتمراً، وقد وصل الفندق قبيل الصلاة، فأخّرته إجراءات النزول في الفندق عن صلاة الجماعة في الحرم، فنهر موظفي الاستقبال كلهم: “طوّفتوا علينا صلاة بمية ألف صلاة”، كأنهما قد نعيت إليه أعز أرزاقه.
وحيناً كان قافلاً من عمرة، والتقى ببعض أصحابه –عند المنفذ الحدودي- معتمرين، فأخذ متاعه من السيارة القافلة وركب مع القادمين .
وكان قد اختلط في آخر عمره، فكان يتهيأ له أنه معتمر نازل في فندق في جوار الحرم، فهو على عجل إلى الصلاة دائماً وإلحاح عليها، وليسكن وجده وتهدأ لهفته جعلوا البث المباشر للكعبة على مرآه، وطافوا به في صالة البيت وكان يلبي إذ يطوفون.
– ” يبة .. تعالوا تغدوا عندنا ..”
– “أمك .. مديرة العزل ..”
وأنت كثيراً ما تشعر بأنك مزيج عرقين؛ أحدهما دقيق النظام وملتزم، منشغل بالإتقان وحازم، وآخر مُفْرِطٌ في الليونة، يجتمعان فيك وأمامك.
كأنما تَنظِم هي الأشياء في خطوط مستقيمة ومربعات مغلقة، ويسكبها هو في دوائر.
تصوغ قواعدها بعناية، ويعيش هو في رحابة استثناءاته.
وليست ثمة -في زمن العزل- أبواب مفتوحة، سوى نوافذ وخيمة مُشرعة وفناء :)
وأنت تتأمل اجتماع هذا داخلك -إذ تتأملهما- كأنما تجول في العالم المنطوي فيك ..
جعل الله لك هذه الأسابيع فراغاً من السعي وخلواً من المشاغل، كأنما آتاك خلوة أربعينية في وقت ربيع، لتستحيل صلتك بالليل والنهار من خلال ذاتك لا من خلال أشغالك وانشغالاتك، تسمع الأذان خمساً دون أن يزاحمك ضجيج أو تستنهضك عَجَلة.
“صلوا في بيوتكم”، في مُصلاك، لا في الجماعة، في لحظة اسثناء تاريخية، مثنى وفرادى بعيدين عن الزحام.
يذكرك هذا بحبة السنبلة، تنبت السنابل، فتنبه فيك دور الفرد، وأثر الفرد، ومعنى الفرد، من حيث أن الجماعة منطوية فيه وقائمة به ابتداءً، من حيث هو مادة الجموع ومنتهاها.
ويلفتك هذا السكون إلى معنى الوقت، تأتي الشمس لتكون هي أحد أول مصادر بهجتك ـأو طلوع النهار عليك، لا رنة المنبه، ولا قرعة الجرس، طلوع النهار وحده هو الموعد، وتدرك كم فاتك من يومك بقدر ما فاتك من النهار، لا بقدر سعيك في الزحام ولا بقدر ما تحصل عليه من الأشياء.
تنكمش حركة الحياة في الخارج فتستأنف نفسها في داخلك، وتتمدد فيك، وتتأمل فلا شيء قد فاتك، لأن الأشياء فيك ومنك وعندك، وإذا الأشياء قيمتها بقدر معناها عندك، ولا قيمة لها في ذاتها.
يعيدك هذا إلى مباهج الحياة الأولى: المسكن الآمن، واللقمة الهانئة ، والكساء الساتر، الفراش الدافئ.
وتدرك أن كل ما بعدها إنما هي هوامش عليها أو استكثار منها.
وأن الوصل في معناه متجاوز، وأن التواصل الإنساني يتأبى على الحصر، ويكفر بالمسافة، وأن الحب والقرب كالنواميس في هذا، الوصل لا ينقطع، والحياة مصاغة على شكل نوافذ ومخارج لا تُغلق، وقدرة الإنسان على التكيف وتصيير الأشياء وابتكار الراحة والتعالي على القيد غير محدودة.
7 Comments
سارة الهندي
الخاتمة يا أللللللله الخاتمة!!!!
لقد وجدت نفسي بمعزل عن وسائل التواصل.. منذ آخر يوم في يناير٢٠٢٠.. ولازلت.. كنت قد أقمت الحجر على نفسي قبل أن يقام فرضًا.. وكأنني كنت أمهد لنفسي.. ما تكتبيه الآن يشابه ما يخطر ببالي هذه الأيام.. لكنني أكتبها بأكثر بساطة منك ومن بلاغتك.. بيدي حيث عدت إلى حواسي الخمس.. إلى زاوية المرسم.. إلى نداءات أمي اليومية البسيطة.. إلى كل ما هو مركون باسم الإرجاء.. الكتب.. الخطط.. أوراق جولات السفر التي لم أعيد قراءتها.. ووجدت روحي معهم مركونة.. أخذتها إلى الداخل.. إلى الله فِيَّ.. إلى كل ما دعاني لأتأمل مصائرنا هذه الأيام.. الأرض موبوءة الآن.. الحال يقول إذا ما كنتَ تحت الأرض.. فستأخذك روحك إلى أبعد منها إلى السماء.. ثمة حبلاً وثيقًا يعزز نفسه! أمام كل عجز الأرض!
نوال اليحيى
وكأنني أقرأ وحي قلم الرافعي
مريم الخزام
أنتظر روايتك القادمة بشغف♥️
أسماء آل شيبان
طول عمرك أنيقة و كلماتك معبرة موفقه يا اصدق أخت
موتمباي رجب
بوركت أناملك، وفاض بالإبداع مدادك.
سلمت دكتورة حصة
عبداللطيف الخنيني
استظللتُ بالغمامه فإذا هي غيثاً مغيثاً سحاً غدقا.
غرفتُ منها سموَ الروح
واطربتني رشاقة القلم.
لولوة
عن السنبلة والمعنى ومديح البطء. نور وبركة ورضا❤️