Skip to content Skip to sidebar Skip to footer

“اشتغلوا زي خان الخليلي”: إلماحات للباحثين

كان الشيخ سعد مصلوح يقول لنا -في محاضرات الماجستير-: ليس المطلوب منك في مرحلة الماجستير أن تقدم جديداً في العلم لم يسبقك إليه أحد، وإنما المطلوب أن تُنظّم عقلك. تناول مبحثاً دقيقاً من العلم، أو مظهراً محدداً من الظواهر، تتعاهده بالفحص، وأعمل فيه نظرك منضبطاً بمنهج دقيق، وتوسّل الإتقان في فكرك، فلا تخرج فكرة إلا وقد قلّبت فيها النظر، وتلمست فيها الصواب.

اعمل كما يشتغل العامل الفنان -في أسواق مصر والمغرب- في قطعة صغيرة من النحاس، يعكف عليها فلا يدعها إلا وقد استوت فنّا. وليكن عملك البحثي جامعاً بين صرامة العلم وإبداع الفن.

وكانوا في إنجلترا -حين يدربوننا على مهارات البحث يقولون: هوّن عليك، It is not a Nobel Prize، وإنما هي صناعة تضبطها بإجراءات وتقاليد ومنهج”.

وكان -حين يُقرؤنا المقولات اللغوية في بعض كتب أصول الفقه في محاضرات مقرر (التفكير اللساني عند العرب)- يقول: حاول أن تكتب كما يكتب علماء الأصول: ذلك بأن نحاول ما استطعنا أن نضبط كتابتنا ضبطاً دقيقاً على مسطرة المعنى؛ كل كلمة في مكانها من العبارة مؤدية لمعنى لا يؤديه غيرها، بلا حشو ولا اختصار مؤدٍ لالتباس.

(ذلك أن اللغة في علم الأصول هي آلة ضبط وتعيين المنهج، وعلم الأصول هو الذي يتوصل به إلى فهم قواعد الشريعة، والشريعة منهج الدين، والدين عندنا غاية الحياة، فإذا كانت آلة فهم الدين واستنباط قواعده وأحكامه هي اللغة، فإن التراث اللغوي لعلماء أصول الفقه فد مثّل غاية في العناية بفهم اللغة واستعمالها، بما هي وسيلة إلى تفسير الدين).

في هذه التدوينة أحاول أن أكتب بعض الإلماحات التي قد تعين الباحثين، مما تعلمته في هذه المحاضرات، وفي غيرها، من الدروس والتجارب. والتدوينة هذه مُهداةٌ:

إلى من يرى في أرزاق غيره من المعارف والتجارب رزقاً له، يحبه كما يحبه لنفسه، يعرف أن له نصيباً من خراجها على أطراف أنامله، أو على طرف الأسئلة.


(1) يبدأ البحث من السؤال، المحدد الواضح

دعك مما يقال عن دهشة الأسئلة، إذا أردت أن تكتب بحثاً أو تفحص ظاهرة، فاجعل سؤال واضحاً ومحدداً؛ حدد أي جوانب الظاهرة تريد أن تفحص، وقد تشعر أن السؤال يبدو ساذجاً، لا عليك. تبدأ المعرفة من الأسئلة المحددة المنضبطة، تمهّد للجواب، لا من الدهشة الحرة المتراكبة.

إذا أردت -مثلاً- أن تبحث ظاهرة معينة، فاسأل -نفسك أولاً- سؤالاً:

  • أي مظهر/ جانب من الظاهرة تريد أن تفحص؟
  • وأين محلّه زماناً ومكاناً، أو في أي نطاق يظهر؟
  • ثم اسأل عن شكله: كيف يظهر أو بم يتمظهر: ما صورته، وما صيغته؟

أردت أن تدرس مصطلحاً معيناً، مثلاً؟ حدد صيغة المصطلح أو صيغه بقائمة عندك، دونما توسّع في صور ليست ذات صلة مباشرة بما تبحث عنه.

حدد نطاق الفحص: ارسم حدوداً واضحة للنطاق زماناً ومكاناً (في أي المصادر وأي الأزمنة، وأي في نطاق تداول: عند أهل صناعة أو أهل علم معيّن. مثلاً).

ثم حدد نوع الظاهرة التي تعتني بها: تغيّر المصطلح مثلاً، أو: استعماله، أو: نحته، أو توجيهه في مجال علميّ معين.

ارسم حدوداً واضحة في هذا، سيؤتيك سؤالاً محدداً واضحاً، ثم تقيّد به، لا تفزع إن بدا السؤال بسيطاً، لا تتأتى مقاربة صحيحة إلا بهذا النوع من التأطير. ثم أن المعرفة كلٌّ يكسب معناه من الأجزاء الصغيرة التي يتكون منها، ولا تتأتى مقاربة سليمة لهذا للكل إلا من جهة العناية بأجزائه.

(2) اجمع المادة وصنّفها

إذا كانت أسئلتك واضحة ومحددة، فسيقترح عليك السؤال طريقة تصنيف المادة، ذلك أن تصنيف المادة تصنيفاً أولياً يقوده السؤال نفسه، بحيث يؤدّي بك إلى الإجابة على السؤال، ولو تأملت ستجد أن كل جانب من المادة متعلق بسؤال فرعي عن الظاهرة التي حددتها،   وتطلَّب الدقة هنا، لا تحشد كل ما يصل إليك، إلا ما يضيف إلى الإجابة عن هذا السؤال بأن يكشف جانباً أو فرعاً من جوانب تلك الظاهرة.

(3) قيّد ملاحظاتك الأولية وأفكارك

اكتب ملاحظاتك على المادة التي جمعتها، والأفكار التي تبدّت لك في النظر،ستقودك هذه الأفكار لاحقاً إلى اختيار المقاربة والمنهج التي تنتهجهما، لا تكتب ما كتبه غيرك، وعليك أن لا تفعل، لا نريد بهذا القول خرقاً للتقاليد بل نريد تَتَبُّعها، على نحو يضيف شيئاً إلى المعرفة.

قالوا لنا -في محاضرات الدكتوراه ودورات التدريب على كتابة البحث العلمي: اكتب مبكّرا ما استطعت، سينفعك هذا. غير أني لا أرى بهذا أبداً، والذي أرى ما يأتي:

  • اكتب ملاحظاتك أثناء فحص المادة: جوانب استدراكك، فجوات تريد التنبيه عليها، فيما وجدته في المادة، أو في كتابتك أو في عمل غيرك، اكتب مبرراتك في جمعك وتصنيفك، ونحوها من جوانب فحصك.
  • ثم اكتب أفكارك ورؤاك الفاحصة: التي تبدّت لك عند جمع المادة وتصنيفها، مما يعين على استكشاف جوانب الظاهرة/الموضوع محل النظر.
  • اكتب سجيتك، كتابة حرة في الأسلوب موجَّهة في الغاية، دوّن كل ما بدا لك من الملاحظات والزوايا، سترتّب لاحقاً ما كتبت، وقد تأخذ بعض ما كتبت إلى الهامش، أو تجعل بعض ما في الهوامش متناً.

(4) اختر المقاربة والمنهج مما استقر في تقاليد الفرع الذي تدرسه من العلم

إذا تبين لك هذا من فحص المادة وتصنيفها وقيّدته، فإن ذلك سيعينك على اختيار المقاربة والمنهج الذي تتناول به بحثك؛ موجَّهاً بالسؤال -الواضح المحدد- الذي يحاول بحثك الإجابة عليه.

  • ثمة مناهج ومقاربات لكل علم، ولها كتب تجمعها وتبين الأساس النظري لكل منها، وتبين مسالكها وطرقها. اختر  من هذه (الأدوات) ما يمكّنك من الإجابة على سؤالك، سبقوم كل جزء من هذا المنهج بالكشف عن جانب من جوانب الظاهرة (أو الإجابة على فرع من السؤال). يتطلب هذا أن تصوغ مقاربة خاصة، تُبررها منهجياً، بحيث تتناول كل أداة (أو جزء نظريّ) منها مهمة معالجة جانب من الظاهرة.
  • من المفيد أيضاً أن تراجع بحثاً جيداً في نفس الفرع الذي تبحث فيه، لأستاذ أو باحث يعرف طريقه، سيفيدك النظر في طريقة عرضه وأسلوب معالجته، كما ستفيدك قائمة مراجعه، وتلك دائرة متواترة: فالمعرفة مؤدية إلى المعرفة، ولعلك تحفظ المواد المفيدة مصنفة عندك.
  • وفي اختيار المناهج والمقاربات كان الشيخ يوجهنا: حاول ما استطعت أن تنوع مصادر اطلاعك، ولا تحفل بالجديد لجدته، ولا تزهد بالقديم لقدمه. وإنما “قيمة كل نظرية غربية بقدر ما تحل بها مشكلاً في تراثك”.

(5) في مرحلة الكتابة الأخيرة:

كان مما يقوله الشيخ:

  • لا تؤجل صعباً، وابدأ به: ابدأ بأكثر نقطة تريد أن تؤجلها، اكتب أولاً في المبحث الذي يشق عليك وتريد أن تتجنبه.
  • ولا تهجروا جميل اللغة لعدم الاعتياد؛ ينبهنا إلى ألا نهجر تعبيرات لغوية هي غاية في الجمال، ليس بها غموض ولا تشوبها صعوبة وإنما هجرت من الاستعمال ليس عن صعوبة أو غموض ولكن لعدم الاعتياد لعدم تداولها. أحيوا تعبيرات اللغة بتداولها.

(6) عيْنُ صديقٍ نابِه أمين

حدِّث المهتمين عن أفكارك وأنت تكتب، أو متى ما انقدحت في ذهنك، لكن لا تمدّ أوراقك إلا حين تكتمل مسوّدتك. حدّث مَن شئت من زملائك المهتمين بالفكرة، وحدد من يقرأ عند التمام، وإذا أعطاك ملاحظات منهجية فتصبّر على النصح وعدّل، لكن إذا قال لك أن تحذف شيئاً، فإن كان ما كتبته مما يقع في النطاق الذي أردت فحصه وضمن منهجيته، ورأيت في كلام صاحبك وجهاً من الصواب، فلا تحذف ما كتبته كاملاً ولعلك تحيل إليه في الهامش.


ولنصائح الشيخ بقية: هنا وهنا.


أحالنا أستاذ في فصل تعلّم اللغة التحضيري للدكتوراه إلى كتاب فيه أساسيات كتابة البحث أو التقرير، وأذكر أنه قال لنا حينها: إذا كنت تريد كتاباً واحداً في كتابة البحث في هذه المرحلة التحضيرية، فليكن هذا الكتاب والكتاب يصلح مدخلاً لفهم بنية البحث، والتدرّب عليها.


عسى الله أن ينفع، وهذه التدوينة قابلة للتعديل، منفتحة على الاستزادة، فمازلنا نتعلم.

أضِف تعليقاً

اشترك في القائمة البريدية، تصلك آخر التدوينات.

Sign Up to Our Newsletter

Be the first to know the latest updates