ربما يعتريك شعور – وأنت تشاهد على الشاشات التي (بين يديك) ما يحدث لإخوانك في غزة– أن ليس (بيديك) شيءٌ تفعله، أو ربما تشعر بضعف يتراكم، أو عجز، وقلة؛ قلة في الجدوى، أو في المتاحات، وقد يمدك هذا بطوفان من المشاعر لا تدرك أطرافها.
أو قد يستلّ عقلك شعور آخر يتمترس به عن الألم: مشاعرُ من الانصراف، أو صورةٌ من تجنب الأحداث، بطرق شتى.
تختلف استجاباتنا وردّات أفعالنا تجاه ما يحدث، لكن على كل حال تشعر أن هذا الذي يحدث، فوق طاقتك على استيعابه أو الإحاطة به،فضلاً عن أنك تشعر أنه –على الذين يجري عليهم– بلاء عظيم وامتحان كبير –ثبتهم الله، أيدهم الله، آواهم الله، نصرهم الله.
تحاول هذه التدوينة أن تضع –في نقاط– ما الذي يمكن الواحد منا فعله إزاء هذا الذي يجري:
كل هذا الموت الحاضر بين أيدينا، الماثل بين أيدينا في شاشاتنا يجب أن يترك أثره في تصوراتنا، لا أقول واجب بالمعنى الأخلاقي المجرد وحسب، لكنه الواقع الذي تشهده فيُشهدك على وقائع تُشير بسبابتها إلى معنى الحياة وحقائقها الكبرى – كل الذي يحدث يقول لك بصورة واضحة عن فناء هذه الدنيا – وقلة ما فيها مهما كثر، ودناءة أمرها، وقصر زمانها مهما طال، وهو لا يطول، لأنك ترى تسارع الزمن في هذه الأيام فيزيدك هذا معرفة بفناء الدنيا ودنو آجالها وسرعة انقضائها.
فما الذي يمكن أن يتركه شهودك هذه الأحداث على تصوراتك، فيما يلي بعض النقاط:
• هذه الدنيا تنقضي سريعاً
لذّتها تزول سريعاً، وألمها –مهما تطاول– يذوب، وساعة الفرح تُنسي عُمر الحزن، وكلاهما ينقضي سريعاً، وأذكر في هذا قول أحد معتقليغوانتامو (أربعة عشر عاماً) قال أنه –حين عاد– سأل أهله: كيف ينظرون إلى تلك السنين حين انقضت؟ فقالو له: كحلم، أو طيف عابر، أولمحة من الزمن (شيء من هذا، ولا أذكر تعبيره المنقول عنهم)، فقال أنه –وقد مكث في العذاب– يراها كذلك، حين انقضت، وقد خَلُص من ذلك إلى حقارة قدر الدنيا إذ نعيمها وعذابها زائل سريع الزوال، ولا يبقى فيها إلا ما له معنى في الميزان، فانظر فيم تفني أيامك. ومع زمنيحضر فيه كل هذا الموت بصوره وأشكاله التي ننكشف عليها كل يوم، تكاد الدنيا –لو نظرت وتأملت– تمثل أمامك –على صورتها في الآخرة– عجوز تكتسي بلون هذا الدمار.
• الضرورات : مأكلٌ، ومَلْبَسٌ، ومسكن
إنما ضرورات الحياة في ثلاث: مسكن آمن، ولقمة هنيئة، وكساء يستُر ويقي، وفراش دافء، مع عافية بدن، كل العافية في تلك الثلاث، و كل الحياة بعدها تكاثر وتظاهر وتفاخر يؤتيك من العناء في تَطَلُّبه أكثر مما يمدّ لك من العافية.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: “مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا”.
ولو تأملت سعي الناس في تَطَلُّبهم للزيادة لوجدته جُلَّه في (مظاهر) لا تُسمن ولا تُغني، وليس لها مِن قيمة في ذاتها سوى التمايز على الأقران، وبهذا ينشط السوق؛ تجعل الرآسمالية من (المظاهر) ضرورات بأن تربطها بالحاجات النفسية، وتدفع الناس نحوها من حيث يتوهمون سدّ احتياجاتهم النفسية بامتلاك المزيد من الأشياء التي لا سبيل لهم بالاستغناء عنها ، وكأن الطمأنينة أو السكون معقودٌ بامتلاكها، وإنما هي سراب في سراب.
تعرض لك الشاشة موت إخوانك ودماءهم على بلاط المستشفيات المعطلة، وأنقاض بيوتهم، وحاجتهم للقمة والماء، فضلاً عن السقف والمأوى، فتنازعك نفسك في “ضروراتك“، حتى أنك –من حيث شعرت أم لم تشعر– جعلت ضروراتهم في مرتبة بعض ضروراتك. تأمّل هذا في نفسك،ثم ابنِ وعياً عن قيم السوق التي تشوّه تصوراتنا النفسية ومفاهيمنا، وتجعل النفس الأمارة تلتهمنا بمراداتها التي لا تنتهي. ولا يمكنمواجهة هذا بغير وعي عن قيم السوق المهيمنة أولاً، لِتَعِي أن المظاهر استنزاف، تنافس وتكاثر – غير أنه تكاثر في أعراضٍ لا قيمة لها فيذاتها، تسلبك مواردك ولا تحفظ قيمةً في ذاتها، مهما وعدتك الشركات غير ذلك. وعن مركزية الآخرة ثانياً.
• مركزية الآخرة
عن مركزية الآخرة أحيل إلى هذا النص، من (قناة مدونة) على تليجرام:
“من المعاني المركزية التي أعادت أحداث غزة إحياؤها في النفوس؛ عقيدة الموت، والإيمان باليوم الآخر وبالبعث والجزاء، بعد أن كادت هذه العقيدة تدرُس تحت وطأة المادية المفرطة، وتحت هيمنة الحياة الدنيا وزينتها على أرواح الناس وأجسادهم، حتى بتنا ننسى أننا سنموت، وأنهذه الدنيا هي دار عبور، وأن الآخرة هي دار القرار. فجاءت هذه الأحداث بما فيها من مشاهد الموت المتكاثر كل يوم لتعيد ضبط هذه المركزية، وتضعها في مكانها الصحيح، فلا ينبغي لعاقل أنيبيع الدائم بالفاني، ولا ينبغي له أن يذهب سعيه وكدُّه في تحصيل ما لا يبقى. ولإعادة ضبط هذه المركزية آثار حسنة كثيرة من أهمها: الانتفاع بما أنزل الله، والإيمان به، والامتثال لأمره ونهيه، وفي ذلك يقول الله تباوك وتعالى:﴿وَهٰذا كِتٰبٌ أَنزَلنٰهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذى بَينَ يَدَيهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ القُرىٰ وَمَن حَولَها وَالَّذينَ يُؤمِنونَ بِالآخِرَةِ يُؤمِنونَ بِهِ وَهُم عَلىٰ صَلاتِهِم يُحافِظونَ﴾ [الأنعام: 92 – 92]، والآيات في ذلك كثيرة معروفة. والموفق حقاً من نظر لهذه الأحداث نظر المعتبر المتعلم فعاد ذلك عليه بالخير في دينه ودنياه، والمحروم من حُرم الاعتبار فبقي في البطالة مقيمًا لا تؤثر فيه آية، ولا تنفعه تذكرة..”
• الدعاء فِعل مؤثر
الدعاء فِعل مؤثر في الأحداث، والأيام توقِظ غفلتك لتُريك أن الأمر أمر الله وهذا العالم يجري بأمره. استغرق في الدعاء جهدك، واجعل للنصرورداً من أورادك، ونصيباً من قنوتك، واجعل لذلك وقتاً، ادع ساعة في السحر، أو في عشية الجمعة.
ادعُ دعاء من يؤمن أن هذا العالم يجري بأمر الله، وأول الفعل التوجه إلى الله. والدعاء –بما هو فعلٌ قلبي– من أخصّ العبادات، يمتحنإخلاصك إذ “ساحة التأثير” فيه هي نفسك، ويقينك، وموقفك النفسي من نُصرة إخوانك.
واقرأ القرآن، كلام الله، اقرأ القرآن بقلب حاضر، فيه الإجابات تؤتاها من جهة القلب لا من جهة النَظر؛ يخبرنا الله فيه عن أمره في الأيام،وعن وعده ووعيده، وينصب لنا فيه ما يثبت به القلوب، ويستقيم به النظر من المعاني والمعايير.
• لا تُكاثر العوالم عليك
نفسك هي ميدانك الأول وساحة فعلك، فلا أرى لك أن تنصرف عنها إلى الصور والأشياء التي تمتد عنك أو يتقلص فيها نطاق تأثيرك أو لاتستطيع أن تصلها يدك، ثم أن دوائر فعلك هي: يدك ولسانك وقلبك كما يبين الحديث – لن تعدم إن أخلصت –فعلاً بكل منها، لكن لا على جهة الاستنزاف، وإنما على جهة استيفاء الجهد بوعي. فهذا الذي يحدث ابتلاء لنا نحن أيضاً، وأنت إذ تنكشف تشعر أنه فوق طاقة منيشاهده، فما بال عن يقع عليهم –ثبّتهم الله، آواهم، الله، نَصرهم الله، أعانهم الله-. فلا أرى لك أن تستكثر من تعرّضك للأحداث إذا كان ذلك يستنزف جهدك. واصرف جهدك أولاً إلى ما يريده الله منك، إلى الأثر الراسخ والمعنى المستدام في نفسك، ثم اجعل لك –إن رأيت– أثراً في زواياً يكون لك أثر فيها، لا تُشغلك عن ميدانك الأول، ولا تؤذيك.
• أحبّ الأعمال إلى الله
من أحب الأعمال إلى الله وأرجاها عنده: نفع متعدٍ، فيه إغاثة أو إعانة أو تفريج كربة، ولا يكاد يستقيم للمرء تمام هذا إلا حين يوقَ شُحّ نفسه،ويوقَ المرء شُح نفسه بمعرفة قدر الدنيا وفهم ما طُبعت عليه.
الجنة التي وعد الله درجات – وحياتك هذه ومواقفك وأفعالك تحدد درجتك في الحياة الأبدية الخالدة غداً، فاعمل لمنزلك.
1 Comments
غير معروف
لا تدرك أطرافها
لا تدرك