اسم الكتاب: الصداقة: قيمة أخلاقية مركزية تأليف وترجمة: ميشيل حنا متياس الناشر: (عالم المعرفة)، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت سنة النشر: 2017 عدد الصفحات: 283هذه المقالة مهداة إلى نورة، نضيع عن بعض في معارض الكتب، ثم نلتقي وقد جمعنا في أكياسنا كتباً متباينة.
يرى الكاتب الصداقة حاجة إنسانية أساسية، ومقوماً جوهرياً، بل قد يكون شرطاً للحياة الأخلاقية. وأنها، على أهمية التنظير لها ” كقيمة أخلاقية أساسية في حياة الإنسان”، فإن الصداقة قد استبعدت من النظرية الأخلاقية منذ القرن الرابع حتى القرن العشرين من تاريخ الفلسفة، وأن آخر تنظير لها في النظرية الأخلاقية كان مع نهاية المرحلة الرواقية. وأن الفلاسفة حين استبعدوا الصداقة كقيمة أخلاقية مركزية من نظرياتهم الأخلاقية، كانوا قد استبعدوا مفهوماً متجذراً في النموذج الأخلاقي للجماعة، ووظفوا النظرية الأخلاقية لتعكس ما يرونه هُم مهماً أو مركزياً من القيم الدينية، أو الفلسفية أو الآيديولوجية، لا على ما تراه الثقافة، التي ينظّرون، لها مركزياً وأولوية في بنائها الثقافي والقيمي. ويَفترض “أن الأخلاق والثقافة الأخلاقية عنصران جوهريان في جميع ثقافات العالم[1]“، وأن الفلاسفة الذين يحللون الأخلاق في الثقافات المختلفة إنما مهمتهم فحص دوافع هذه الأخلاق، ومنطلقاتها، بمناهج مختلفة، بغية الكشف عن، أو تفسير، البنية النظرية للسلوك الأخلاقي الإنساني. هذه البنية وهذا السلوك يجب أن يعكس رؤية الجماعة للخير الأسمى. وأن هذا استبعاد الفلاسفة للصداقة في النظرية الأخلاقية يعكس تحولاً في طريقة فهم الفلاسفة أنفسهم للسلوك الأخلاقي عامة. وفي تفسيره لطريقة تحول النموذج الأخلاقي[2]، يحدد الكاتب الخاصية الأخلاقية quality التي تضفي على فعل أو سلوك الميزة الأخلاقية (بأن تجعله أخلاقياً، وفقاً لمعايير الثقافة التي تمنحه هذه الصفة)، ويحدد مجموعة القيم والمعتقدات التي تشكل رؤية الجماعة للعالم worldview، ثم يعرض طريقة التحول في النموذج الأخلاقي لثقافة ما -عبر الزمن بطبيعة الحال- (وهو تحول مؤدٍ بطبيعته إلى تغير أنماط السلوك الأخلاقي، وتغير في المفاهيم التي يتحقق بها الخير الأسمى في رؤية هذه الجماعة أو الثقافة). وفي بنائه لمحاججته، يعتمد الكاتب على مناقشة وعرض “النموذج الأخلاقي”: يعرض مكانة الصداقة في نظريات الصداقة في العصر الهليني (الثقافة اليونانية القديمة) والعصر الهلنستي (الذي اعتَبر فلاسفته الصداقة قيمة أخلاقية مركزية) وذلك بأن يناقش تصور أرسطو[3] في الصداقة: ما الصداقة الحقيقة في تصور أرسطو، ما موقع الصداقة في تحقيق السعادة (السعادة هي الخير الأسمى – وفق هذه الرؤية)، ما الذي يجعل الصداقة حاجة إنسانية أساسية؟ ثم يحلل نظرية شيشرون للصداقة: ما الذي يتحقق به الخير الأسمى وفق رؤية شيشرون (تمكين ملكة العقل هو الخير الأسمى في النظرية الرواقية عامة[4])؟ ما موقع الصداقة من تحقيق هذا الخير، ما الصداقة؟، وما الذي يجعلها حاجة إنسانية؟ ثم يعرض الكاتب الصداقة في العصور الوسطى (استبعدت الصداقة من النظرية الأخلاقية). يناقش تحول النموذجين الثقافي والأخلاقي من ثقافة العصور الكلاسيكية إلى ثقافة العصور الوسطى (هذا التحول الذي نتج عن تحول ثقافي راديكالي برز فيه نظام اجتماعي جديد أنتج ثقافة جديدة)، ، وذلك بتحديد خصائص (رؤية العالم) في العصر الوسيط، وتصور هذه الرؤية للخير الأسمى (تصور الخير الأسمى وفق هذا النموذج هو تصور أخروي[5])، يحاجج الكاتب بأنه وفق هذا التصور للخير الأسمى تغيب الحاجة إلى الصداقة (بوصفها حاجة إنسانية أساسية) ويغيب موقعها في تحقيق الخير الأسمى (يجادل الكاتب بأن الخير الأسمى وفق هذه الرؤية متعلق بالصلة بالله، منفك عن الصلات الإنسانية المتمثلة في الصداقة)، فالصداقة غير ضرورية لتحقيق السعادة وفق هذا النموذج، وهذا أدى إلى تهميش قيمتها في النظرية الأخلاقية لهذه العصور. يمضي الكاتب في محاججته ليؤكد أن الأخوة والمحبة الخالصة قد حلّت محل الصداقة في المسيحية، إذ “كل ما هو مطلوب من المسيحيين” هو “محبة الجار لأنها الطريق إلى محبة الله ومن ثم إلى السعادة الأبدية”، ويجعل من ذلك الهدف الديني شاغلاً يقوّض قيمة الصداقة في الحياة، فهم -أي المسيحيين- منشغلون بـ “هدف نشر أكبر كمية من المحبة في حياتهم وحياة الآخرين” و”ليست لديهم القدرة أو الوقت الكافي لاختيار شخص أو شخصين كأصدقاء لتحقيق طبيعتهم الاجتماعية” ومن ثم يغيّب قيمة الصداقة في التصورات (الدينية بطبيعة الحال)، وفي النظرية الأخلاقية في العصر الوسيط. في عرضه النظرية الأخلاقية الحديثة[6] (التي استبعدت فيها الصداقة)، لا يبدو الكاتب الذي قد اتّبع بنية نظرية واحدة في الفصلين السابقين (حين ناقش النظرية الأخلاقية في العصور الكلاسيكية، والوسطى)، يتّبع بنيةً مماثلة في هذا الفصل، وعلى أن الكاتب بدأ هذا الفصل بعنوان فرعي عريض: النموذج الثقافي الحديث: الملامح الأساسية، فلم تتبين لي هذه الملامح على وجه الدقة، وبدا لي أنه يعرضها عرضاً أدبياً فالثقافة الأوروبية الحديثة “فريدة بإنجازاتها، بارزة بثراء هذه الإنجازات وعمقها، ورائعة بتقدمها ..”، ويراها “هي الدافع العملي للتقدم الروحي والمادي في جميع أنحاء العالم”، وفي عرضه “ضعف وقصور وإخفاقات المجتمع الأوروبي الحديث الفادحة” يحيل الكاتب إلى “أخطاء الشباب الفادحة” و”سوء فهم” النقاد المعاصرين للحضارة الأوروبية الحديثة، ويميل الكاتب إلى تجنب بناء حكم معياري ويصف الكاتب الحياة الإنسانية “على مستوى الفرد أو الجماعة” بالمغامرة العظيمة” التي يثمنها، ثم يقول “لا يمكن الحكم على المغامرة ..”، وكأن أوصافه السابقة لها مجردة من أي حكم. وفي تحول النموذج الثقافي الحديث، لا يؤرخ الكاتب للتحولات بقدر ما يسرد أوصافه لها بأسلوب أدبي، فالكاتب يرى هذا التحول نوع من (التجديد) و(قفزة للأمام) بشجاعة وحكمة، كانت نتيجته “إصلاحاً دينياً”، وثورتين: الزراعية والصناعية، وأنتجت “أجمل الأعمال الفنية” تعبر عن “رؤيتهم لجمال الطبيعة”. ثم يؤكد بأن هذا التحول قد أنتج رؤية جديدة للعالم، أنتجت بدورها نموذجاً ثقافياً جديداً، من ملامحه: سيادة العقل، الإنسانوية، الدينامية، ثم يوضح كيف ظهرت هذه الملامح في مؤسسات المجتمع الحديث وفي الفن والفلسفة، ماضياً في سرده لتجليات هذه الملامح في المؤسسات المختلفة. غير أنه يرى أن معنى الخير الأسمى في رؤية فلاسفة العصر الحديث كامن في الطبيعة الإنسانية (من منطلق فلسفي دنيوي، لا من منطلق ديني -كما في العصور الوسطى)، وأن الخير الأسمى يتمثل في تحقيق السعادة في هذه الحياة، وهذا يمهد القول-عند بعض الفلاسفة- بمبدأ المنفعة (وتكون اللذة هي مبدأ التمييز الأخلاقي)، وعند آخرين منهم بمبادئ أخرى (ويشير الكاتب هنا إلى كثرة النظريات الأخلاقية، وتفاوت تصورات الفلاسفة لمبدأ الخير الأسمى، وفهمهم للطبيعة الإنسانية). وفي مناقشته لغياب الصداقة من النظرية الأخلاقية الحديثة، لا يقول الكاتب بغياب الصداقة نفسها من النموذج الثقافي في العصر الحديث (بل يقول بأنها موجودة في النموذج الثقافي، غائبة في النظرية)، ولكنه ولكنه يحيل غيابها في النظرية الأخلاقية إلى تصوّر الفلاسفة أنفسهم للنظرية الأخلاقية، فقد كانت النظرية الأخلاقية عند فلاسفة هذا العصر أداة معيارية لتعيين “الشروط النظرية والعملية للإصلاح الاجتماعي”، وهذا جعل فلاسفة هذا العصر ينشغلون عن الصداقة، وعن وصفهم وتفسيرهم للنموذج الأخلاقي للثقافة برمّته، بتعيين ملامح إعادة تنظيم المجتمع، (وهي حجة بالمناسبة كان يمكن استخدام مثلها، في تسويغ غياب الصداقة من النظرية الأخلاقية في القرون الوسطى، إذ يمكن القول أن غيابها من النظرية أمر نظري، غير أن المؤلف اختار هناك أن يعزو سبب غياب الصداقة من النظرية والعلاقات الإنسانية في الحياة، كلاهما، إلى سبب ديني). وبينما حاجج بأن غياب الصداقة في العصور الوسطى راجع إلى انشغال المسيحي عن إنشاء علاقات الصداقة في الحياة، لأسباب دينية، يقول إن تسويغ إهمالها كقيمة مركزية في العصر الحديث بطبيعة النسيج الثقافي والاجتماعي المتغير غير كاف لأنها لا تزال مع ذلك حاجة إنسانية أساسية وفي مناقشته للصداقة في النظرية الأخلاقية المعاصرة، يقرر الكاتب بأن النموذج الثقافي المعاصر لم يطرأ عليه تغيير جذري عن النموذج الثقافي الحديث – الحداثي، لكن تغييراً طرأ لا في نوع القيم والمعتقدات ولكن في طريقة فهمها وتفسيرها، يصف الكاتب هذا الفهم الطارئ بأنه “فهمـ[ـاً] أثرى وأعمق وأكثر عقلانية” ويمضي في منح هذا الفهم أوصافاً أُخر على تلك الشاكلة. وفي تحليله للنموذج الأخلاقي المعاصر يعيّن مؤسسات المجتمع المعاصر: العلم والتكنولوجيا، السياسة، والفن، ثم يخلص بعد مناقشة لاتجاهات فلسفة معاصرة إلى أن استبعاد الصداقة من النظرية المعاصرة راجع إلى أنها ليست متطلباً أخلاقياً وليست عنصراً أو شرطاً للحياة الصالحة وفق النموذج الأخلاقي والثقافي في هذا العصر، وبذلك لا تكون حاجة إنسانيةً أصلاً. في الفصل الأخير يحاجج الكاتب في أن الصداقة حاجة إنسانية أساسية وأنّ هذا يجعلها متطلباً أخلاقياً جوهرياً في الحياة الإنسانية. وعلى أنّ الكتاب (الذي يتألف من سبعة فصول) يقدم بنية نظرية متماسكة في كثير من جوانبه، ولغة واضحة، إلا أن هذا يبدو بالتراجع تحديداً في الفصلين الذين أفردهما لمناقشة النظرية الأخلاقية الحديثة والمعاصرة. وبينما يجادل الكاتب بأن غياب الصداقة كقيمة أخلاقية مركزية في النظرية الأخلاقية في العصور الوسطى والحديثة راجع إلى اهتمام الفلاسفة بعرض رؤاهم وأفكارهم وانشغالهم بها عن تفسير الظاهرة الإنسانية، نجده في تفسيره لغياب الصداقة من النظرية، في العصور الوسطى، يعرض رؤاه في ذلك (في إحالتها للعامل الديني) أكثر مما يتعمق في فحصه لطبيعة العلاقات الإنسانية في ظل القيم الدينية والأخلاقية التي ناقشها. كنت قد اشتريت هذا الكتاب في آخر معرض كتاب قبل جائحة كورونا، وبدأت قراءته على أضواء السيارات خارج المعرض، غير أن موضوعاً حياً كهذا، في مناقشة فلسفية منهجية، كان جديراً أن يقدم معالجة أكثر إقناعاً وانضباطاً. وهي فرصة لدعوة الباحثين إلى أن يهتموا بالظواهر الحية في معالجاتهم، حتى تهب المعرفةُ الحياةَ من المعاني، بقدر ما تهبها الحياةُ من الظواهر الجديرة بالفحص وبالتأمل.
[1] ص 36 [2] (وهو إطار مفهوماتي conceptual framework يتشكل من قيم ومعتقدات الجماعة، تتشكل به “طريقة عامة في التفكير والشعور والفعل في مجال من مجالات الحياة الإنسانية …” عند جماعة ما، أو معظم أفرادها. [3] الذي جعل لها فصلين في كتابه (الأخلاق) [4] ص 107 [5] “ينتج من هذه النظرة أربع قضايا. أولاً، الرؤية (vision) المباشرة لله هي مصدر السعادة؛ ثانياً، الله، وليس الإنسان الطبيعي، هو مصدر القيم الأخلاقية؛ ثالثاً، لا يمكن تحقيق السعادة في هذا العالم لأن الله متعال؛ رابعاً، السعي من أجل السعادة في هذا العالم تحضير لتحقيق السعادة الكاملة في الحياة القادمة.” ص 150 [6] الحداثية
مصدر المقال