بينما تطوف منى الكرد في “الحارة”، توثّق المشاهد في حيّ الشيخ جرّاح في القدس المحتلّة، وتنقل ما يجري في الحيّ إلى الشاشات عبر وسائل التواصل، تأتي الشاشاتُ إلى محمّد، شقيقها التوأم، الذي يظهر على القنوات الإخباريّة العالميّة وغيرها، من زاويةٍ في غرفتِه، يُجيب عن الأسئلة الموجّهة إليه. وقد رأينا بعضَ إجاباتِه تُرفع في لافتاتٍ في المظاهرات الداعمة لفلسطين التي خرجت في مدن شتّى في أنحاء العالم أثناء معركة “سيف القدس” في مايو/ أيار الماضي.
أحاولُ في هذا المقال أن أتتبع الصورَ المتعددة لواحدةٍ من التقنيات اللغويّة التي يستخدمها محمّد الكرد ويوظِّفها في محاوراته1، أضعها بين يدي القارئ عسى أن يستفيد منها المهتمون.2
إعادة التسمية
في مقابلةٍ له مع قناة الغد، يقول الكرد: “… نحكي المفردات الحقيقية، إذا الشي اللي بيصير بالشيخ جراح هو تطهير عرقي احكوا تطهير عرقي، إذا الشي اللي بيصير بغزة هو جريمة حرب هو إرهاب احكوا جريمة حرب وإرهاب وإبادة جماعية“.
يعبّر هذا الاقتباس عن واحدةٍ من أبرز التقنيات اللغويّة التي كثيراً ما يلجأ إليها محمّد في محاوراته ومحاججاتِه ، وهي “إعادة التسمية”، وكأنّ أحد أوجه الحرب هي حربٌ على المصطلح وبالمصطلح. ولهذه التقنية (إعادة التسمية) صور عدّة، أحاول فيما يأتي أن أرصد بعضها:
(1) المكافئ اللغوي: المصطلح أم المشهد؟
واضحٌ أنَّ ثمة فجوة في وصف ما يحدث على الأرض باللغة، ليس لقصورٍ في اللغة، ولكن لقصور المصطلح المستخدم للتعبيرعن الموقف والحق، بسبب انحيازات سياسيّةٍ معروفة ضدّ حقوق الشعب الفلسطيني. وحين لا يكون المصطلح المستخدم مكافِئاً لغويّاً مناسباً للتعبير عما يحدث على الأرض فإنَّ محمّداً، في محاججته عن حقوق الشعب الفلسطينيّ، يستبدل بالمصطلح المستخدم مصطلحاً آخر، أو يعود إلى المشهد فيرويه، وقد يجمع بينهما.
مثلاً، حين تسأله المذيعة عن المشهد في الحي، وقد تقرّر “إخلاء” منزل عائلته، فلا يصف لها المشهد إلا بسطرٍ في ختام إجابته، ويستفتح بتعديل المصطلح: “هذا ليس إخلاءً، إنّه تهجير عرقيّ قسريّ”، ثم يمضي في توضيح ذلك، مورداً الأسباب والحجج.
وفي طريقه لنقض المصطلح قد يستخدم محمّد وصفَ الواقع بديلاً عن المصطلح القاصر: “هذا ليس “صراعاً”، إنّه جيش يعمل مع مجموعات مسلّحة من المستوطنين لإخضاع وقمع الفلسطينيّين”.
وإذا قرّر محمّد أن يصف مشهداً مما نقلته الشاشاتُ في وسائل التواصل الاجتماعيّ، فإنه يتبع وصفَ المشهد بتسميته: “وهناك الكثير من مقاطع الفيديو قد أظهرت عناصر من الشرطة الإسرائيلية وهم يعتدون على الفلسطينيين […]وأقل ما يوصف به هذا هو أنه إرهاب“.
ولا يبدو محمد -في أحيان كثيرة- منشغلاً بالإجابة على السؤال، بقدر انشغاله بتعديل المصطلحات ونقد بعض المصطلحات التي تستخدم – في الإعلام الغربيّ، وفي (المجتمع الدولي)، وحتى عند بعض الناشطين، للتعبير عن الأحداث في فلسطين. “فكلمة (الفصل العنصريّ) تهوين فجّ لوصف ما يحدث في الواقع”، كما يقول الكرد. معبراً عن الفجوة – بين المصطلح وما يحدث على الأرض- الفجوة التي يحاول جاهداً ردمها، أو التحايل عليها، باستبدال المصطلح مرّة، وبوصف ما يحدث على الأرض مرةً أخرى أو بالجمع بينهما، أو بغير ذلك من تقنياتٍ لغويّة.
(2) إعطاء الشعور اسماً
وفي إحدى صور محاولاته لتصحيح التسميات، يجيب الكرد عن سؤاله عن شعوره، بتسمية الشعور باسم مصطلح:
– كيف تشعر وقد نشأتَ يلازمك ما قد أسميتَه (قلقُ نزع الملكية)؟ – ]…[ إنّه شعورٌ مخيف، غير أنَّ له اسماً أيضاً: إنّه (استعمار استيطاني)، وهو (فصل عنصري) ..
لا يستفيض الكرد في التعبير عن شعوره رغم أنّ المنصات التي تستقبله تجد في قصته ما يثير اهتمام المتلقي عندها، لكنك تراه في كثيرٍ من الأحيان يحاول تجاوز قصتِه، لينقلَ تجربته من حيز (الخاصّ) إلى (العام)، من أسوار (البيت) إلى حدود (الوطن)، من (الذاتيّ) إلى (الموضوعيّ – التاريخيّ)، فيلتفت عن الشعور إلى المأساة التي أنتجت هذا الشعور، ويُسمّي هذه المأساة (فصلاً عنصريّاً) و(استعماراً استيطانيّاً).
يستخدم محمّد المصطلحَ المتعارف عليه دوليّاً، أي مصطلح (الفصل العنصري)، لكنه لا يكتفي به، ذلك أنَّ (الفصل العنصري) الذي يُعبّر عن حالة من عدم المساواة في الحقوق المدنيّة، لا يتناسب تماماً مع ما يجري في فلسطين، على اعتباره “أحد أشكال الهيمنة ضمن مشروع استعمارٍ استيطاني“. ولذلك نراه دائماً يجمع بين المصطلحين: “فصل عنصري” و”استعمار استيطاني”، وهو (أي الأخير) ما لم يعترف به المجتمع الدوليّ بعد.
(3) الخصم الحكم: (تقنية الوصف والإضافة)
تناقشه المذيعة فيما قد تحتجّ به “المحاكم” في دعواها ضدّ عائلته، فيستدرك محمد عليها: “المحاكم؛ المحاكم الإسرائيلية، محاكم الاحتلال الإسرائيلي“.
يستخدم محمد هنا الوصفَ والإضافةَ ليُقيّد به مؤسسات الاحتلال، فبوصفها “إسرائيليّة” أو بإضافة لفظ “الاحتلال” إليها، يُقيّد محمّد المحاكم بما ينقض دورَها بما هي مؤسسات قضائيّة أصلاً، وبذلك ينتفي وصف ما يحدث بأنّه “صراع قانونيّ”، أو تصويره بأنّه “نزاع على الملكيّة” تفصل فيه مؤسساتُ القضاء. وبهذا الوصف يُحاجج، دائماً، بأنَّ الدعوة “إلى السعي إلى تحقيق العدل في المحاكم الإسرائيليّة أمرٌ غير معقول”.
(4) التسمية فعل
في صورةٍ أُخرى تُعبِّر عن انشغالِه بتعديل التسميات، نجد محمّداً في غير موضعٍ يدعو الصحفيّين (في الإعلام الغربيّ)، والناشطين الفلسطينيّين، وخصوصاً المتحدثين بالإنجليزيّة منهم – يدعوهم أن “يُسموا الأشياءَ بأسمائها”.ويعدُّ تسمية الأشياء بغير أسمائها (فعلاً) “غير مهنيّ”، “يفتقر إلى أدنى أخلاقيات العمل الصحفيّ” وهو ما يقوم به الإعلام الغربيّ كثيراً.
وينتقد محمّد المجتمع الدوليّ بأنه “يرفض أن يسمي [الأشياء] بأسمائها، وهو بذلك يسمح له [أي للاحتلال] باستهداف الأحياء المدنيّة عمداً، في قطاع غزّة وذبح 24 فلسطينياً، بينهم أربعة أطفال، دون أن يواجه أي تبعات”. هنا يجعل محمّد القتل نتيجةً لعدم تسمية الأشياء بأسمائها، وبذلك يكون عدم تسمية الأشياء بأسمائها (فعلاً) من أفعال المجتمع الدوليّ يُنتج أفعالاً أُخرى، لا محض قول.3
(5) ما يُسمّى بـ … (جسر الاضطرار)
وإذا احتاج محمّد، في خطابه بالإنجليزيّة، أن يستخدم مفردةً أو تعبيراً أو مصطلحاً متعارفاً عليه، لا يؤمن هو به، فإنّه يستخدم هذه المصطلحات، مسبوقة بـ: “ما يسمّى بـ “: “ما يسمى بـ(معركة قضائية) مع هذه المنظمات الاستيطانية ..”، أو: “على ما يسمّى بـ (أرضهم)”، أو: “وما يسمّى بالـ(الضفّة الغربيّة)”..
وجليّ أن استخدامك مصطلحاً ما مع عدم إقرارِك به، هو شكل من أشكال الاضطرار، إذ لا يكفي ذلك المصطلح منفرداً للتعبير عن الحدث ووصفه بما هو، وهو ما قد يجعلك عالقاً في مساحة ضبابيّة فوق الإقرار ودون صريح الرفض. غير أن محمّداً يحاول أن يقشع هذه “الضبابيّة”- إن صح التعبير- بتوظيفه أكثر من تقنيةٍ لغويّةٍ واحدة مما حاولنا حصره في هذا المقال.
(6) بيتي، وطني، مصطلحاتي (المحتلة)
يصوغ محمّد أحياناً مصطلحاته، متجاوزاً ما تم التعارف عليه دوليّاً مما لا يكفي لوصف الواقع والتصريح بالحقّ، أو على الأقلّ فإنّه يحاول أن يفعل: يُسمّي سلب منزله “عملية نهب” بينما “سمّته (الأمم المتحدة): جريمة حرب”. يصف القدس -كلّها، وفلسطين -كلها- بـ”المحتلة” متجاوزاً ما هو معترف به في القانون الدوليّ (من وجود احتلال في شرق القدس فقط) إلى ما يعترف به هو والتاريخ (احتلال القدس كلّها واحتلال فلسطين كلّها)، معبّراً بهذا عن موقفه، السياسيّ بطبيعته، السياسيّ بطبيعة “الصراع” وجوهره، ولأن كل تحييدٍ لِما هو سياسيٌّ في هذه المعركة هو انحيازٌ سياسيّ بالضرورة.4
في الختام، لا يبدو أنّ كثيراً من المصطلحات قد بلغت ما تعبّر به عما يجري في فلسطين، وفي محاولات سدِّ الفجوة، لا تبدو أن طريقةً واحدةً كافية للتعبير عما يحدث في هذا الواقع وعن موقف محمد السياسي منه. ولذلك، كما قلنا، نجده في سبيل سد عجز المصطلح أو قصوره: يستبدل مصطلحاً بمصطلح، أو يجمع بين مصطلحين، أو يتنقل من استخدام المصطلح إلى وصف الأحداث في الواقع، أو يكمل عجز المصطلح بإضافةٍ أو وصفٍ (عندما يصف به مؤسسات الاحتلال وأفعاله وأدواته وصفاً يقيّدها)، وقد يستخدم مصطلحاً قاصراً اضطراراً مع ما يعبّر عن عدم موافقته عليه، وقد يجمع، بين أكثر من تقنية. ——- قائمة المقابلات:(1) في نهاية المقال قائمة بالمقابلات التي رجعت إليها في كتابتي لهذا المقال، بالإضافة إلى خطاب محمد الكرد في الأمم المتحدة.
(2) لا يتوقع من هذا المقال أن يقدّم صورةً مستقصية لجميع التقنيات التي استخدمها محمد الكرد، ولا يتوقع من حجاجه أن يقدم نموذجاً مكتملاً، نحن هنا نحاول أن نأخذ من إنسان في الميدان وعلى الأرض، رسالة يقاتل في حياته من أجلها، ثم يسعى -على قصور اللغة التقنية-أن يوصلها إلى العالم، في مواجهة غير متكافئة مع آلة إعلامية ضخمة، لعل الناشطين على الأرض ومن وراء الشاشات يجدون فيها ما ينفعهم، وما يطوّرونه لاحقاً.
مصدر المقالة